أولوية إنقاذ نساء وأطفال غزة للحفاظ على النسل الفلسطيني

يفضل الطاقم الطبي تقديم الرعاية الصحية للإناث أولاً والأولاد ثانياً وأخيراً الرجال صوناً للنسل والنسيج الاجتماعي

 بمجرد وصول الإسعاف إلى ساحة مستشفى ناصر في مدينة خان يونس جنوب غزة، أعطى الطبيب المشرف محمد صقر تعليماته للطواقم الصحية قائلاً “أنتم تعرفون ما نعانيه من شح في المستلزمات الطبية والعلاجات، وإذا كانت الحالات خطرة فعليكم التركيز على النساء أولاً ثم الأطفال وأخيراً الرجال”.

على عجل كان ينقل المسعفون نحو ۳۰ شخصاً بينهم مصابون سقطوا بغارة إسرائيلية مروعة شنها الطيران الإسرائيلي على القطاع، وبسرعة هرع العاملون الصحيون إلى قسم الاستقبال والطوارئ لتفقد الحالات بصورة أولية.

عدد النساء القتلى

بعد الفحص تبين مع الأطباء أن ۱۲ رجلاً مصابون بجروح وسبع نساء و۱۱ طفلاً جميعهم كانوا في حال حرجة، لكن الطبيب صقر أكد بصوت عال على فريقه “تعاملوا مع النساء، أنقذوهن واستعملوا أقصى مهاراتكم، تذكروا أننا بذلك نحافظ على النسل الفلسطيني”.

1.jpg

 الحرب على غزة تدمر النسيج الاجتماعي (اندبندنت عربية – مريم أبو دقة)

وبحسب الدراسات التحليلية التي أجرتها وزارة الصحة على تصنيفات الضحايا والمصابين الذين سقطوا في حرب القطاع فقد تبين أن “هناك خطراً على النسل الفلسطيني وقد تهدد الحرب الإسرائيلية على غزة العرق الفلسطيني وتجعله بعد ۲۰ عاماً نادراً”.

واستنتج فريق وزارة الصحة الفلسطينية ذلك بعد أن رصد مقتل ۱۱۹۰۰ امرأة في الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع، وإلى جانب سقوط ۱۶۵۰۰ طفل من أصل ۴۰ ألف ضحية، يشكلون إجمال عدد الحالات التي وُثق قتلها ووصلت إلى المستشفيات.

تغيير شكل المجتمع

يقول الوكيل المساعد لوزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة الطبيب عبداللطيف الحاج إن “هذه حرب على النساء والأطفال، إسرائيل دولة متطورة جداً وتمتلك أسلحة موجهة تستطيع من خلالها إصابة أهدافها من دون أن تتسبب في سقوط ضحايا جانبيين، لكنها اتبعت أسلوب الإبادة الجماعية للقضاء على النسل الفلسطيني”.

ويضيف أنه في المجتمعات تشكل المرأة أساس العرق، وبعدما راجعنا أعداد الضحايا وجدنا قتل عدد مهول من النساء، وذلك يهدد النسل وإضافة إلى أن الأطفال هم حجر أساس المستقبل وقتلهم يعني أن تركيبة مجتمعنا الديموغرافية ستكون مختلفة في الغد القريب”.

2.jpg

تُقتل ۶۳ امرأة كل يوم بينهن ۴۸ أماً (اندبندنت عربية – مريم أبو دقة)

وتعول وزارة الصحة والمؤسسات الحكومية على المرأة كونها تهب الحياة، ويوضح الحاج أن “النسوة اللواتي قتلن في الحرب لو بقين على قيد الحياة لأنجبن في عام واحد قرابة ۴۲ ألف طفل، وكان بإمكان هؤلاء الصغار تشكيل مستقبل أفضل بعد ۲۰ عاماً، لكن الحرب أودت بحياة الأمهات”، وبحسب جهاز الإحصاء الفلسطيني فإن المرأة تشكل ۴۹ في المئة من المجتمع الفلسطيني، وبلغ معدل الخصوبة العام لديها ۳٫۵ فرد في العام الواحد، لكن هذه المؤشرات كانت قبل الحرب وتغيرت بسرعة بسبب القتال.

أسلوب المفاضلة

بعد أن أدركت وزارة الصحة أن الحرب الإسرائيلية طويلة وقد تمتد فترة ليست بقصيرة، وبعد درس جنس ضحايا القتال قررت الحفاظ على العرق الفلسطيني وتقديم الرعاية الصحية للنساء والأطفال قبل أية فئة أخرى، واتبعت أسلوب المفاضلة أثناء تعاملها مع الحالات التي تصل إلى مستشفيات القطاع.

ويقوم بروتوكول المفاضلة على أساس أن يجري الأطباء فحصاً أولياً للمصابين فيصنفون بحسب الجنس ودرجة الخطورة، وعلى هذا الأساس يتخذ الطبيب المشرف قراره إما تقديم الرعاية الصحية لجميع المصابين أو التركيز على إنقاذ النساء أولاً والأطفال ثم الرجال.

3.jpg

انخفض النمو السكاني في غزة من ۲٫۷ إلى ۱ في المئة مع معدل خصوبة من ۳٫۶ إلى ۱٫۱ في المئة (اندبندنت عربية – مريم أبو دقة)

ويقول الطبيب محمد صقر، وهو يشغل أيضاً صفة المتحدث باسم مركز ناصر الطبي، إنهم مضطرون إلى فعل ذلك حرصاً على العرق الفلسطيني، وهناك سبب يدفع لاتباع أسلوب المفاضلة في تقديم الخدمات وهو شح المستلزمات الطبية جراء الحرب الإسرائيلية والحصار.

ويضيف، “الطواقم الطبية تركز على إنقاذ الأطفال والنساء للحفاظ على العرق الفلسطيني في غزة، ونحن نعاني نقصاً حاداً في المستلزمات الطبية والعلاجات ولا نستطيع تقديمها لجميع المصابين ولذلك نفضل علاج المرأة لأنها أساس النسل والعرق”.

بعد إغلاق معبر رفح الحدودي مع مصر إثر العملية العسكرية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في تلك المنطقة، توقف توريد العلاج والأدوية والمستهلكات الطبية، وما يدخل إلى غزة حالياً عبارة عن مساعدات إنسانية دولية محدودة تمر عبر إسرائيل للمنظمات الدولية وليست لوزارة الصحة الفلسطينية، ونتيجة لذلك فهناك نقص بنحو ۵۰ في المئة من الأدوية و۶۰ في المئة من المواد المخبرية والمستهلكات الطبية.

4.jpg

استئصال غير ضروري للرحم من أجل إنقاذ الحياة بسبب شح المستلزمات الطبية (اندبندنت عربية – مريم أبو دقة)

تقسيم العائلات على أماكن

تحذير وزارة الصحة من تهديد الحرب العِرق الفلسطيني دفع سكان غزة إلى اتباع أساليب التحايل، إذ عمد إياد إلى تقسيم أفراد عائلته، فأرسل ثلاثة منهم للعيش في مركز إيواء وخمسة آخرين في منازل الأقارب واثنين في شمال غزة المحاصر، ويقول إن “تقسيم العائلة بات أسلوب جميع سكان غزة”.

وبحسب “صندوق الأمم المتحدة للسكان” فإن إسرائيل تعمل على إجراءات تهدد العرق الفلسطيني، وتقول المديرة الإقليمية ليلى بكر إن هناك تدميراً واضحاً للنسيج الاجتماعي جراء الحرب في غزة، وهذا يؤثر في النساء والفتيات بصورة أكثر سلبية من بقية سكان القطاع”.

وتضيف بكر أن “الأرقام والإحصاءات تعكس جزءاً من الظلم، وهذه الحرب قد تهدد النسل الفلسطيني للأبد، فالمرأة تدفع الثمن الأعلى للحرب في غزة، وبلغة الأرقام تقتل ۶۳ امرأة كل يوم، بينهن ۴۸ أماً، فيما تقتل اثنتان من الأمهات كل ساعة”.

قطع النسل

وقد أجرى “ديوان المظالم” (مؤسسة حقوقية حكومية رسمية تمثل فلسطين في المحافل الدولية) دراسة حول استهداف إسرائيل الأطفال والنساء بالحرب لقطع النسل، ويقول الباحث القانوني في الهيئة عمار جاموس إنه بعد تتبع أسلوب وأفعال الجيش الإسرائيلي فإن “هناك مساع إلى قطع نسل الفلسطينيين في قطاع غزة”.

واستدل جاموس على ذلك من خلال مؤشرات عدة، أولها إصدار الجهاز المركزي للإحصاء ورقة حقائق جاء فيها أن “النمو السكاني انخفض في غزة من ۲٫۷ في المئة إلى ۱ في المئة، ومعدل الخصوبة من ۳٫۶ إلى ۱٫۱ في المئة”.

ويضيف جاموس أن “إسرائيل فرضت تدابير تحول دون الإنجاب عبر قتل النساء الحوامل والأطفال وتدمير المراكز الصحية، وتعمدت ارتكاب المجازر الجماعية التي أدت إلى محو عائلات بكاملها من السجل المدني”، موضحاً أن إسرائيل ركزت على استهداف النساء الحوامل من خلال القتل المباشر أو دفعهن إلى الإجهاض أو الولادة الباكرة، ولافتاً إلى ارتفاع حالات الإجهاض إلى ۳۰۰ في المئة.

ويشير جاموس إلى أنه نتيجة عدم وصول الإمدادات الطبية يضطر الأطباء إلى إجراء استئصال غير ضروري للرحم من أجل إنقاذ الحياة، مما يجعل الأمهات غير قادرات على الحمل مجدداً، مبيناً أن الجيش دمر مركز الإخصاب وأطفال الأنابيب مما أدى إلى حرمان ۱۲۰ ألف ثنائي من القدرة على الإنجاب مرة أخرى.

صراع ديموغرافي

أما في إسرائيل فتنفي المؤسسة العسكرية نيتها قتل النساء أو الأطفال، ويقول المتحدث باسم الجيش دانيال هاغاري “نلتزم بقوانين الحرب ولنا شواهد كثيرة على عدم أسر النساء وتركهن من دون قيود أو تهديد بالسلاح”.

لكن من زاوية أخرى يقول المدير العام لجمعية الجليل للبحوث الصحية والاجتماعية أحمد الشيخ إن إسرائيل تعيش هاجس الديموغرافيا في أنحاء المنطقة كافة، وسواء كان ذلك النمو في الأراضي الإسرائيلية أو الفلسطينية فإنه يقلق صناع القرار في تل أبيب”.

مضيفاً “تشير التقديرات إلى تقارب عدد السكان بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فهناك ۶٫۷۲ مليون إسرائيلي في مقابل ۶٫۶ ملايين فلسطيني، ولذلك أعلنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حرباً على التكاثر الطبيعي لدى الفلسطينيين”.

وصل معدل إنجاب المرأة الفلسطينية لتسعة أطفال خلال ستينيات القرن الماضي، لكنه انخفض إلى ثلاثة أطفال مع بداية عام ۲۰۰۰، أما في إسرائيل فإن معطيات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية تشير إلى تفوق معدل الإنجاب لدى الإسرائيليات حين وصل إلى ۴٫۱، وفي المقابل تراجع إنجاب المرأة الفلسطينية المتواصل إلى ۳٫۰۴ وتوقفه عند هذا المعدل.

وأظهر بحث لمركز الإستراتيجية الإسرائيلية بعنوان “كيف تحول الشيطان الديموغرافي إلى معجزة ديموغرافية؟” أن هناك تحولات في أنماط الولادة لدى المجتمع الإسرائيلي والفلسطيني، إذ يوجد انخفاض في نسب الولادة في الضفة وغزة في مقابل زيادة لدى الإسرائيليات.

ويستنتج البحث أن التهديد الديموغرافي الذي طالما شكل عقدة لإسرائيل أخذ بالاختفاء، وأن “الغالبية الفلسطينية لم تعد تشكل تهديداً على المشروع الصهيوني في المنطقة”.

المصدر : صحيفة الإندبندنت عربية