المجتمع التونسي يتجه نحو التهرم.. معدل الخصوبة أقلّ من معدل تجديد الأجيال

يشهد المجتمع التونسي تحولات كبرى في التركيبة السكانية إذ يتجه أكثر فأكثر نحو زيادة عدد المسنين بعدما كان مجتمعا شابا، وهو أمر يُرد إلى أسباب متعددة على رأسها توجه الشباب عموما إلى تحديد عدد الأطفال والظروف الاقتصادية التي لا تساعد على زيادة عدد أفراد الأسرة، لكن تهرم المجتمع بدوره يفرض أعباء كبيرة على الدولة.

 تشهد تونس ارتفاعا متصاعدا في ظاهرة التهرم السكاني، حيث تزداد نسبة كبار السن ومن المتوقع أن تتجاوز ۱۷ في المئة بحلول سنة ۲۰۲۹، وهو ما ينطوي على أعباء أكبر على الدولة التونسية وخاصة على اقتصادها.

ويشهد المجتمع التونسي تحولات في سياسة الإنجاب ترجمت بتقلص عدد الأطفال حيث بات الأزواج الشبان أكثر اقتناعا بإنجاب طفل واحد أو طفلين على أقصى تقدير بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تعيشها تونس.

وأكدت عربية الفرشيشي، ممثّلة المعهد الوطني التونسي للإحصاء، أن تونس تشهد انخفاض نسبة الأطفال مقابل ارتفاع نسبة الشيوخ، وهو ما يُبرز توجهاً نحو التهرم السكاني.

جاء هذا التصريح خلال ندوة للإعلان عن إعداد خطة وطنية لتعزيز التماسك الأسري، تزامناً مع الاحتفال باليوم الوطني للأسرة خلال شهر ديسمبر الجاري.

ووفق الإحصائيات انخفض عدد الولادات بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، حيث تم تسجيل ۱۳۵ ألف حالة ولادة عام ۲۰۲۳ مقارنة بـ۲۲۰ ألف حالة ولادة عام ۲۰۱۵٫ وبلغ معدل الخصوبة في سن الإنجاب ۱٫۷ طفل لكل امرأة سنة ۲۰۲۲، وهو أقل من المعدل الطبيعي المطلوب لاستقرار السكان (۲٫۱ طفل لكل امرأة).

۹٫۵ في المئة نسبة كبار السن من إجمالي سكان تونس مع توقع أن تصل إلى خُمس السكان بحلول ۲۰۳۶

وتراجعت نسبة الأطفال دون سن الرابعة على مر العقود، حيث كانت تُشكل حوالي ۱۵ في المئة عام ۱۹۵۶، لتنخفض إلى ۵ في المئة عام ۲۰۱۴، وفي المقابل ارتفعت نسبة السكان الذين تتجاوز أعمارهم ۶۰ عاماً، وهو ما يشير إلى زيادة ملحوظة في أعداد كبار السن.

تأتي هذه المعطيات كجزء من الجهود الوطنية لفهم التحولات الديمغرافية والاستعداد للتعامل مع آثارها، من خلال إستراتيجيات تهدف إلى تعزيز التماسك الأسري وضمان استدامة التنمية السكانية.

وأوضحت الفرشيشي أن أمل الحياة عند الولادة شهد تطوراً ملحوظاً، حيث ارتفع بشكل أكبر بين النساء بفارق حوالي ۵ سنوات مقارنة بالرجال، كما ارتفعت نسبة الهيكلة العمرية في تونس، لتصل إلى ۱۵٫۲ في المئة عام ۲۰۲۴٫

وباتت ظاهرة التهرم السكاني تهدد المجتمع التونسي. وعزا مراقبون تزايد نسبة تهرم السكان في تونس إلى السياسات السكانية التي تتبعها الدولة لتحديد النسل والتّحكّم في الزّيادة السّكّانيّة، وسط إقرار بتراجع نسبة الشباب في المجتمع التونسي مقابل ارتفاع نسبتي الكهول والشيوخ.

وتتوقع السلطات التونسية أن تتغير التركيبة العمرية للمجتمع التونسي من مجتمع فتي إلى مجتمع في بداية التهرم، تبلغ فيه نسبة كبار السن قرابة خمس السكان بحلول سنة ۲۰۳۶ وفق ما أكدته وزيرة الأسرة والمرأة السابقة آمال بلحاج موسى.

يأتي ذلك في ظرف تشهد فيه البلاد صعوبات اقتصادية واجتماعية مازالت تلقي بثقلها على الحياة اليومية للتونسيين، وتتصاعد معها وتيرة الهجرة غير النظامية إلى أوروبا.

نمو نسبة كبار السن نتيجة طبيعية لتأخر سن الزواج وارتفاع نسبة التعليم لدى المرأة وتراجع عدد الأبناء

وصرّحت سارة جابر، مديرة تطوير نظم المعلومات في المعهد الوطني للإحصاء، بأنّ كبار السن يمثلون ۹٫۵ في المئة من إجمالي السكان في تونس، مع تزايد مستمر في ظاهرة التهرم السكاني، وهو ما يُشير إلى تحول تدريجي نحو مجتمع هرم. ومن المتوقع أن تتجاوز نسبة كبار السن ۱۷ في المئة بحلول عام ۲۰۲۹٫

كما أشارت إلى أنّ نسبة التونسيين الذين تجاوزت أعمارهم ۶۰ عامًا تبلغ حاليًا ۱۵٫۲ في المئة، بالتزامن مع انخفاض نسب الخصوبة وتراجع عدد الولادات.

وأفادت جابر بأنّ المعهد الوطني للإحصاء يواصل إجراء التعداد العام للسكان والسكنى، حيث تمّت زيارة ۸۵ في المئة من الأسر التونسية خلال ۳۶ يوم عمل، ما يعادل حوالي ۲ مليون و۸۰۰ ألف أسرة. وأكدت أنّ العمل جارٍ للوصول إلى جميع الأسر بحلول نهاية الشهر الجاري.

وشددت على أهمية هذا التعداد في توفير بيانات محدثة تسهم في إعداد برنامج التنمية للفترة ۲۰۲۶ – ۲۰۳۰٫

ومع تطور المجتمع التونسي وانتشار التعليم ليشمل الإناث والذكور وخروج المرأة إلى العمل، تأخر تدريجيا سن الزواج لدى الشباب من الجنسين، ولم يعد الزواج أولوية ملحة، بل بات التحصيل العلمي والحصول على العمل أكثر أهمية من الزواج.

ويقول مختصون في علم الاجتماع إن تصاعد نسبة كبار السن هو نتيجة طبيعية لعدة عوامل، من ضمنها تأخر سن الزواج وارتفاع نسبة التعليم لدى المرأة التونسية الذي خفض نسبة الإقبال على الزواج.

عقود الزواج في تونس تراجعت بنسبة ۳۶ في المئة، وتراجع عدد المواليد بنسبة ۲۸ في المئة خلال العشرية الأخيرة

ويناهز معدل سن الزواج ۳۱ سنة للإناث و۳۳ سنة للذكور، ويصل إلى ۳۴ سنة لأصحاب الشهادات الأكاديمية العليا، فضلا عن تراجع المؤشر التأليفي للخصوبة (معدل عدد الأطفال الذين يمكن أن تنجبهم امرأة طيلة حياتها) إلى مستوى ۱٫۷۵ طفل وهي نسبة أقل من المستوى الذي يسمح بتجدد الأجيال والمقدّر بـ۲٫۱ طفل كحد أدنى.

وتفيد الإحصاءات بأن عقود الزواج في تونس تراجعت بنسبة ۳۶ في المئة، كما تراجع عدد المواليد بنسبة ۲۸ في المئة خلال العشرية الأخيرة. وتعكس هذه المؤشرات واقعاً مجتمعياً جديداً عمقته الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتتالية وقلة فرص العمل، وانحسار تدريجي للطبقة النشيطة في المجتمع. في المقابل تتسع شيئاً فشيئاً شريحة الفئات غير المنتجة وهي فئة المسنين. وهذه التحولات هي في المجمل متغيرات قد تحول المجتمع التونسي إلى مجتمع هرم في غضون العشريتين المقبلتين.

وفي مارس الماضي كشف المدير العام السابق للمعهد الوطني للإحصاء عدنان الأسود عن تراجع حجم الأسرة التونسية من خمسة أفراد في منتصف تسعينات القرن الماضي إلى أربعة أفراد في السنوات الأخيرة، لافتا إلى وجود تراجع ملحوظ لنسبة الولادات من ۲۲۵ ألفا إلى ۱۶۰ ألف ولادة في ۲۰۲۳٫

وتثير هذه الإحصائيات بشأن التركيبة العمرية للمجتمع التونسي تساؤلات حول أسباب ظاهرة التهرم السكاني وتداعياتها المحتملة على بلد يبلغ عدد سكانه حوالي ۱۲ مليونا. إذ من المتوقع أن يتجاوز عدد المسنين في تونس ثلاثة ملايين، حتى عام ۲۰۳۶٫

ويرى المختصون أنها ظاهرة طبيعية للحداثة، إذ تعد تونس من أول بلدان الجنوب الذي يشهد هذه الظاهرة بعد الدول الأوروبية المصنعة منذ القرن التاسع عشر.

وتتبنى تونس منذ أكثر من ۶۰ عاما سياسة “تحديد النسل” التي تشجع على الاكتفاء بثلاثة أطفال كحد أقصى وتوفر للنساء تسهيلات في الحصول على وسائل منع الحمل.

وقالت راضية الجربي، رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية، إن “مسألة التهرم أصبحت مفهومة ولها ما يبرّرها، خاصة ما يتعلق منها بنسبة الزواج وتقلّص عدد الأبناء والإنجاب والاكتفاء بابن أو اثنين، فضلا عن عزوف الشباب عن الزواج وتأخر سن الزواج، كما يوجد سبب اقتصادي وهو أن الزواج أصبح مسألة مكلفة.”

ويؤدي التهرم السكاني إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والمعاشات، وهو ما يشكل ضغطاً إضافياً على الموارد العامة، وانخفاض نسبة الشباب قد ينعكس على قوة العمل، ويؤدي إلى تحديات تتعلق بالتوازن بين الأجيال.

وأضافت الجربي أن “الصناديق الاجتماعية اليوم حذرت من تزايد نسبة التهرم التي ستنعكس على خزائنها المالية، وهناك خوف من أن يصبح المجتمع التونسي غير قادر على مواكبة التطور التكنولوجي، علاوة على نقص اليد العاملة واندثار بعض المهن.”

وأكدت الدراسات أن هذا التهرم ستكون له انعكاسات اجتماعية على مختلف الميادين (الميدان الصحي والتغطية الاجتماعية والتقاعد والتعليم والتكوين والتشغيل والسكن…)، مشددة على أنها توصلت إلى نتيجة أن تونس ستكون بصدد التشيّخ أو التهرم وطغيان عدد كبار السن بشكل سريع، وخاصة من الناحية الاقتصادية التي ستكون فيها الفئات النشيطة المنتجة مضطرة إلى إعالة أعداد أكبر من غير الناشطين، فيما سيزداد إنفاق المزيد على كبار السن.

وفي ظل غياب إحصائيات رسمية، تشير تقارير إعلامية محلية إلى أن عدد المتقاعدين في تونس يناهز مليونا و۲۰۰ ألف متقاعد، يتوزعون بين ۸۰۰ ألف في القطاع الخاص، و۴۰۰ ألف في القطاع العمومي.

وتؤكّد دراسات الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري أن نتائج التهرم السكاني ستنعكس على المجتمع في أفق سنة ۲۰۳۴، وستؤدي إلى اختلال أنظمة الصحة والتأمينات الاجتماعية، حيث سيفرض التهرم نفقات لمدد أطول في مجال التقاعد إزاء صناديق اجتماعية هي في الأصل في حالة إفلاس، مقابل تضاؤل الفئات المنتجة، وهو ما سينتج ضغطا من كبار السن على المجتمع.

وأكد الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي أن دخول تونس مرحلة التهرم السكاني سيؤدي إلى زيادة في نفقات الدولة على المستوى الاجتماعي وخاصة في القطاع الصحي مقابل تسجيل نقص في اليد العاملة الكفؤة.

ونبه الشكندالي في تصريحات صحفية إلى أن “تنامي ظاهرة هجرة الكفاءات من تونس بسبب تدهور القدرة الشرائية والبحث عن سبل عيش أفضل سيلقي بظلاله على البلد في قادم السنوات،” إذ “ستجد تونس نفسها تواجه إشكاليات تتعلق بنقص الفئة الناشطة وتزايد اليد العاملة غير الكفؤة.”

كما أشار إلى أن التهرم السكاني ستكون له انعكاسات على مجالات عديدة كالتعليم والتكوين والتشغيل والسكن، حاثا السلطات التونسية على اتخاذ “إجراءات استباقية” للحد من تداعيات هذه الظاهرة، من قبيل “تغيير المنوال التنموي في البلاد إلى جانب تغيير نظام التأجير بالترفيع في الأجور حتى تكون عاملا محفزا على بقاء الشباب في تونس وعدم التفكير في الهجرة.”

وفي وقت سابق أعلنت وزارة الأسرة والمرأة أنها بصدد استكمال مراجعة كراس شروط إحداث وتسيير مؤسسات رعاية المسنين والتوجه إلى إحداث إقامات خاصة بالمتقاعدين ووحدات عيش خاصة بكبار السن ذوي الإعاقة والمصابين بالزهايمر.

وذكرت الوزارة في بيان لها بتاريخ ۱ أكتوبر ۲۰۲۴ أنه تمّ الترفيع في منحة برنامج الإيداع العائلي لكبار السنّ من نحو ۷۰ دولارا إلى ما يناهز ۱۲۰ دولارا، وفي عدد الفرق المتنقّلة لتقديم الخدمات الاجتماعيّة والصحيّة لكبار السن والتي بلغ عددها ۴۲٫

كما أعلنت الحكومة التونسية عن خطة تنفيذية إستراتيجية متعددة القطاعات لكبار السن في أفق ۲۰۳۰، تحت شعار “شيخوخة نشيطة وحياة كريمة.

المصدر: العرب