في اليوم العالمي للصحة النفسية: الاحتلال يدمر “الصحة النفسية” لسكان غزة ضمن خطة الإبادة الجماعية

يحتفل العالم، اليوم 10 أكتوبر من كل عام، باليوم العالمي للصحة النفسية، في وقت يعيش فيه سكان قطاع غزة في ظل أوضاع نفسية وصحية متدهورة نتيجة حرب الإبادة المستمرة. في ظل هذه الظروف والحرب، تُظهر تقارير دولية ومحلية تأثيرات نفسية عميقة تتسبب في تفاقم الأوضاع النفسية للسكان المحاصرين في القطاع خاصة النساء والاطفال.

ويأتي احياء اليوم العالمي للصحة النفسية لهذا العام، تحت شعار إبراز الصلة الجوهرية بين الصحة النفسية والعمل. ويمكن أن تتيح بيئات العمل الآمنة والصحية عامل وقاية للصحة النفسية. وفي المقابل، يمكن أن تشكل الظروف غير الصحية التي تشمل الوصم والتمييز والتعرض لمخاطر من قبيل التحرش وظروف العمل المتردية الأخرى مخاطر جمة تؤثر على الصحة النفسية ونوعية الحياة بشكل عام ومن ثم على المشاركة أو الإنتاجية في العمل. ولمّا كان ۶۰٪ من سكان العالم يمارسون عملا، فإن من الضروري اتخاذ إجراءات عاجلة تهيئ بيئة عمل تكفل الوقاية من مخاطر اعتلالات الصحة النفسية وحماية ودعم الصحة النفسية في العمل.

يحتفل فيه لإذكاء الوعي العام بقضايا الصحة النفسية. والغرض من هذا اليوم هو إجراء مناقشات أكثر انفتاحاً بشأن الأمراض النفسية وتوظيف الاستثمارات في الخدمات ووسائل الوقاية على حد سواء. وتشير الإحصاءات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية في عام ۲۰۰۲ إلى أنّ ۱۵۴ مليون نسمة يعانون من الاكتئاب على الصعيد العالمي، علماً بأنّ الاكتئاب ليس إلاّ أحد أنواع الأمراض النفسية. وكان أول الاحتفالات في عام ۱۹۹۲ بناء على مبادرة من الاتحاد العالمي للصحة النفسية، وهي منظمة دولية للصحة النفسية مع أعضاء وشركاء في أكثر من ۱۵۰ بلدا. في بعض البلدان مثل هذا اليوم هو جزء من عملية أكبر لأسبوع التوعية بمرض نفسي.

وقالت منظمة الصحة العالمية إنه من الضروري أن تتعاون الحكومات وأرباب العمل والمنظمات التي تمثل العاملين وأرباب العمل وغيرهم من أصحاب المصلحة المسؤولين عن صحة العاملين وسلامتهم على تحسين الصحة النفسية في مكان العمل. وينبغي أن يشارك العاملون وممثلوهم والأشخاص الذين عاشوا تجربة الإصابة باعتلالات الصحة النفسية مشاركةً هادفةً في الإجراءات المتعلقة بالصحة النفسية في مكان العمل. ومن خلال تسخير الجهود واستثمار الموارد في نُهج وتدخلات مسندة بالأدلة في مكان العمل، يمكننا ضمان حصول الجميع على فرصة للازدهار في العمل والحياة. فلنتخذ إجراءات اليوم من أجل مستقبل أوفر صحة.

الوضع النفسي في غزة

وصفت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالحق في الصحة، تلالينغ موفوكينغ، الهجمات الإسرائيلية على غزة بأنها “إرهاب نفسي” يستهدف تدمير الصحة النفسية للسكان، واعتبرت ذلك جزءًا من خطة إبادة جماعية. وأكدت أن مستوى القلق والصدمة بين سكان غزة بلغ مستويات غير طبيعية، مع تدهور إمكانية الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية. يعاني أهالي القطاع من ظروف نفسية متدهورة مع استمرار الحصار ونقص الأدوية والرعاية الصحية الأساسية.

في تقرير لوزارة الصحة الفلسطينية، يُشير إلى أن ما بين ۴۰% إلى ۶۰% من الأدوية الأساسية، بما في ذلك أدوية الأمراض النفسية، غير متوفرة تمامًا في القطاع. هذه النقصات الحادة تزيد من معاناة المرضى النفسيين، وتفاقم الأعراض التي قد تؤدي في بعض الحالات إلى السلوكيات العدائية أو الانتحارية.

الحرب وآثارها النفسية على السكان

على مدى العام الماضي، أسفرت الحرب الإسرائيلية عن استشهاد أكثر من ۴۲ ألف فلسطيني وإصابة عشرات الآلاف الآخرين، مع تدمير مئات المنازل والمؤسسات الحيوية. ويُعاني الكثير من السكان، خاصة الأطفال، من اضطرابات نفسية مثل اضطرابات النوم والتبول اللاإرادي، إضافة إلى حالات الصدمة الناتجة عن مشاهد القصف والدمار.

الدكتورة هدى أبو نمر، الطبيبة النفسية الوحيدة في مدينة خان يونس، أكدت أن عدد المرضى النفسيين يتزايد بشكل ملحوظ مع استمرار الحرب. واضافت المرضى الجدد يشملون مختلف الفئات العمرية، من الأطفال الذين يعانون من اضطرابات شديدة إلى الشباب الذين مروا بتجارب اعتقال وتعذيب. وتقول الدكتورة إن النساء أيضًا يعانين من اضطرابات نفسية جراء فقدان أفراد عائلاتهن.

الطواقم الطبية وأثر الحرب عليهم

تأثرت الطواقم الطبية نفسيًا بشكل كبير، إذ يشهدون يوميًا مشاهد مروعة من دمار وإصابات. يشير الدكتور خليل شقفة، مدير عام الصحة النفسية المجتمعية في وزارة الصحة، إلى أن النظام الصحي في غزة مستهدف بشكل ممنهج، مع مقتل ۱۴ من الكوادر الطبية وإصابة آخرين، وخروج ۶ مراكز للصحة النفسية عن الخدمة. يؤكد الدكتور شقفة أن نقص الأدوية وغياب العناية الطبية قد حول المرضى النفسيين إلى خطر على أنفسهم والمجتمع، مع تزايد احتمالية السلوكيات العدوانية.

الأطفال وصدمات الحرب

الأطفال في غزة هم الأكثر تأثرًا بالوضع النفسي المتردي. مشاهد القصف وتدمير المنازل والأحياء السكنية والقتل المستمر للأبرياء تسببت في اضطرابات نفسية خطيرة بين الأطفال، منها التبول اللاإرادي، الكوابيس، والقلق المستمر. بالإضافة إلى ذلك، باتت اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) ظاهرة شائعة بين الأطفال الذين تعرضوا للعنف المتكرر، خاصة مع غياب الدعم النفسي الكافي بسبب تدمير المرافق الصحية.

الأطفال في غزة، الذين يشكلون أكثر من ۴۰% من سكان القطاع، يعانون بشكل خاص من آثار الصدمات النفسية. الكثير منهم فقدوا أفراد عائلاتهم أو شهدوا مقتل أصدقائهم وجيرانهم، مما جعلهم أكثر عرضة للاضطرابات النفسية التي تؤثر على تطورهم ونموهم الطبيعي.

الشباب واليأس المتزايد

الشباب في غزة هم الضحية الصامتة. غياب الأفق السياسي والاجتماعي والاقتصادي جعلهم يشعرون بالإحباط واليأس. معدلات الاكتئاب بين الشباب في تزايد مستمر، حيث تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من ۳۰% من الشباب يعانون من اضطرابات نفسية، تتراوح بين الاكتئاب والقلق المزمن والميول الانتحارية. كما أن  الحرب والاعتقالات والتعذيب الممنهج من قبل الاحتلال ساهمت في تفاقم هذه الأعراض النفسية.

النساء بين الفقدان والعنف الأسري

النساء في غزة يتحملن أعباء نفسية كبيرة، خاصة في ظل الفقدان المتكرر للأبناء والأزواج بسبب الحرب. الحزن العميق الناتج عن هذه الخسارات، إلى جانب العنف الأسري الذي تفاقم بسبب الأزمات النفسية والاجتماعية، يجعل النساء أكثر عرضة للاكتئاب والقلق المستمر. مع تصاعد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، تواجه الكثير من النساء مشكلات نفسية غير معترف بها بشكل كافٍ أو دون توفر الدعم اللازم.

تدمير المراكز الصحية النفسية

تعرضت العديد من المراكز الصحية النفسية في غزة إلى التدمير نتيجة القصف المتكرر، مما أدى إلى توقف الخدمات النفسية التي كانت تقدم للسكان. منظمة الصحة العالمية أشارت إلى أن ۶ مراكز صحية على الأقل تعرضت لأضرار جسيمة، مما تسبب في فقدان العديد من العلاجات النفسية الضرورية. نقص الأدوية، خاصة تلك المتعلقة بالعلاج النفسي، يمثل تحديًا كبيرًا أمام المرضى الذين يعانون من اضطرابات نفسية حادة.

تأثير تدمير المنازل واللجوء المؤقت

تدمير المنازل والمنشآت السكنية يمثل إحدى أكبر الأزمات التي تواجه السكان من الناحية النفسية. تقدر الأمم المتحدة أن حوالي ۱٫۳ مليون شخص في غزة فقدوا منازلهم أو تضررت منازلهم بشكل جزئي. الانتقال إلى أماكن الإيواء المؤقتة يزيد من حالة عدم الاستقرار النفسي، حيث يعاني السكان من عدم توفر الخصوصية وفقدانهم للأمان النفسي والمادي. إضافة إلى ذلك، تعاني العائلات من نقص حاد في الموارد الأساسية مثل المياه والكهرباء، مما يزيد من التوتر والقلق.

دور المنظمات الدولية والمحلية

رغم الجهود المستمرة من قبل المنظمات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة، لتوفير الدعم النفسي لسكان غزة، إلا أن الوضع يبقى حرجًا في ظل نقص التمويل والاستهداف المتعمد للمرافق الصحية. منظمة الصحة العالمية وصفت الوضع الصحي النفسي في غزة بأنه “كارثي”، ودعت المجتمع الدولي إلى تقديم المزيد من الدعم المادي واللوجستي لتعزيز البنية التحتية الصحية. من ناحية أخرى، تحاول بعض المنظمات المحلية مثل مركز غزة للصحة النفسية تقديم برامج دعم نفسي، ولكن هذه الجهود غير كافية بالنظر إلى حجم الأزمة.

وفي اليوم العالمي للصحة النفسية، يتجدد النداء بضرورة إنهاء الحرب على غزة وتقديم الدعم العاجل للرعاية النفسية والصحية لسكان القطاع.

إن تحسين الوضع النفسي للسكان لا يتطلب فقط توفير الأدوية والخدمات الطبية، بل إنهاء الاحتلال والحصار الذي يفاقم من معاناتهم النفسية والإنسانية.

المصدر: نساء FM