اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
أكثر من ۱۰ شهور مضت والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لا تزال مستمرة في شهرها الـ۱۱ توالياً منذ اندلاعها عقب هجوم ۷ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، لم تتوان مها (۴۴ عاماً) عن دوامها اليومي، كانت خلاله مسعفة، وأم ۴ ذكور وفتاة واحدة، ووجدت نفسها مسؤولة عنهم بمفردها بعد اعتقال زوجها مدير الإسعاف والطوارئ بوزارة الصحة للمنطقة الجنوبية بقطاع غزة أنيس الأسطل.
وتضع مها اعتقال زوجها “أنيس الدنيا” كأشد مصائبها بالحرب “فاعتقاله كسر ظهري” تقول هذه الزوجة الصابرة، وهي التي خسرت منزلها في مدينة خان يونس جنوب القطاع في غارة جوية إسرائيلية دمرته كلياً، ونزحت بأبنائها ۱۰ مرات هرباً من حمم الصواريخ والقذائف.
يومياً ومع بزوغ أول خيوط النهار، تنطلق مها إلى عملها تتنازعها مشاعر الخشية على أبنائها والتزامها بعملها الإنساني، وتقول للجزيرة نت “كل صباح أنظر إلى أبنائي وأدرك حاجتهم لي، ولكنني أضبط مشاعري واستودعهم الله عز وجل وأنطلق إلى عملي.. أولادي بخير لكن هناك أطفالا جرحى وآخرين يئنون تحت ركام المنازل والمباني المدمرة وهم بحاجتي أكثر”.
“لا يمكنني أن أتقاعس عن نجدة هؤلاء الضحايا، وكثير منهم أطفال ونساء” هذا ما تعلمته من زوجها أنيس، وتصفه بـ “القائد والصديق الأول، وكان يقدم عمله الإنساني على أي شيء آخر، ورغم أن منصبه الوظيفي كمدير يعفيه من العمل الميداني، إلا أنه يفضل أن يتقدم الصفوف، ويختار سيارة الإسعاف الأولى في مقدمة المواكب متحدياً المخاطر”.
كان أنيس يرفع شعار “نداء الواجب” وينطلق بنفسه لمهام خطرة، وبحسب زوجته، فقد اعتقلته القوات الإسرائيلية عند حاجز نتساريم العسكري مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، بينما كان متوجهاً برفقة سيارات إسعاف بموجب تنسيق مسبق لإجلاء أطفال مرضى وجرحى من مستشفى كمال عدوان شمال القطاع.
ومنذ اعتقاله لا تعلم مها عن أنيس شيئاً، وما تسمعه من شهادات مؤلمة وصادمة عن أسرى غزة في سجون إسرائيل وما يتعرضون له يجعلها تعيش قلقاً دائماً على مصيره.
تقول مها إن “مواجهة الموت كل لحظة على جبهة النار يومياً في الميدان أهون مليون مرة من قلقي على أنيس” وفي الوقت نفسه تجد نفسها مضطرة للتخفيف عن أبنائها وبث الأمل في نفوسهم بقرب تحرر أبيهم من السجن وعودته إلى حضن أسرته “وهو عمود البيت ومصدر سعادتنا ورغم أجواء الحرب المرعبة أجلس مع أبنائي ونستحضر ذكرياتنا الجميلة مع أنيس”.
لم تمض سوى ساعات قليلة على اعتقال أنيس حتى وجدت مها نفسها مضطرة للنزوح إثر إنذارات عسكرية إسرائيلية مهدت لعملية برية في مدينة خان يونس بدأتها في ۵ ديسمبر ۲۰۲۳ واستمرت حتى ۶ ابريل/نيسان الماضي.
ذاقت هذه المرأة صنوفاً من ويلات الحرب: شهداء من الأقارب والأحبة، اعتقال زوجها، تدمير منزلها المكون من طبقتين. وعاشت مع أبنائها في خيمة، صيفاً وشتاء، وتقول “الحياة في الخيمة قطعة من جهنم، عذاب مع البرد ومياه الأمطار، وعذاب مع حرارة الصيف وانتشار الحشرات والأمراض”.
وفي هذه الخيمة تترك مها أبناءها الخمسة وتشعر “وكأن قلبي يخلع من ضلوعي” وتقضي نهارها في عملها الميداني تتنقل بين استهداف وآخر، لا تكتفي بإجلاء الجرحى وإنما تخفف عنهم نفسياً، وتعود إلى أبنائها “مشحونة بضغوط هائلة” بحسب وصفها، غير أنها تتعالى على تعبها وتخلع معطفها الأبيض وتبدأ مهامها كأم في إعداد الطعام على نار الحطب في ظل أزمة غاز غذائية حادة.
تمر ساعات عملها ثقيلة تتنازعها الكثير من المشاعر الإنسانية الممزوجة بقلق لا يفارقها منذ اعتقال زوجها “هذا الرداء لا يحميني وقد سبقني زملاء شهداء وقد تزينت معاطفهم البيضاء بدمائهم، فماذا لو استشهدت أو اعتقلت، من لأبنائي؟” تتساءل المسعفة الفلسطينية.
وما تعايشه مها من مجازر وجرائم إسرائيلية يومية تجعل “الدنيا تصغر في عيني، فما من شيء في هذه الدنيا أهم من حياة الإنسان”. وتتساءل “ما قيمة المال؟ ولماذا الخلافات الشخصية والأسرية والعائلية؟ ولماذا الغش وارتفاع الأسعار؟.. ما قيمة كل ذلك وحياتك مهددة وكل تفقدها في كل لحظة مع استمرار هذه الحرب المجنونة؟”.
“هذه حرب مجنونة وبلا أخلاق” تقول مها وهي تتحدث عن الظروف التي تواجه عمل طواقم الإسعاف والطوارئ في الميدان، وقد كانت أعداد من العاملين في هذه الطواقم ضحايا للقتل أو الجرح أو الاعتقال، وهي ذاتها تعمل وتدرك أنها ليست في مأمن.
وتكابد مها وزملاءها في هذه الطواقم معاناة شديدة نتيجة الكثير من المعوقات الناجمة عن تداعيات الحرب والحصار، من حيث نقص المعدات الطبية، والدمار الهائل الذي تسببت به آليات إسرائيل وصواريخها في الشوارع وتعوق حركة سيارات الإسعاف.
ورغم كل ذلك تنطلق مها مع رفاقها في سيارة الإسعاف، يسابقون الريح، وتقول “كل دقيقة فيها حياة إنسان”.
ومن بين مشاهد مؤلمة كثيرة لا تكاد تفارقها صورة طفل رضيع في الثانية من عمره يصرخ من شدة الألم، وقد بترت أطرافه الأربعة بفعل صاروخ إسرائيلي أوقع مجزرة في بلدة عبسان شرق مدينة خان يونس، وكان ملقى بين أعداد من الجثث ربما من بينها جثتا والديه.
ووثق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة استشهاد ۸۸۵ من الطواقم الطبية، وجرح المئات، علاوة على اعتقال ۳۱۰ من الكوادر الصحية، من بينهم أطباء وممرضون ومسعفون وإداريون.
وقال مدير عام المكتب إسماعيل الثوابتة للجزيرة نت إن إسرائيل تعمدت بشكل ممنهج -خلال حرب الإبادة الجماعية- استهداف المرافق والمستشفيات والطواقم الصحية، وقد أخرج ۳۴ مستشفى و۸۰ مركزا صحيا عن الخدمة، واستهدف ۱۶۲ مؤسسة صحية، و۱۳۱ سيارة إسعاف.
المصدر : الجزيرة