أطفال غزة ينادون.. فهل يسبقهم الموت أم الأحرار؟

في بيوتنا نركض لأطفالنا إذا بكوا لنرى ما يريدون، وفي غزة يموت الأطفال جوعا وعطشا ولا أحد يركض إليهم إلا الموت، أليس كذلك؟

في أيامنا العادية، عندما يصرخ أطفالنا ويبكون، نركض إليهم نسأل: ماذا حدث؟ ماذا يريدون؟ نلبي طلباتهم في ثوانٍ، وإن لم نستطع نحاول إقناعهم. أليس كذلك؟

أطفال غزة لا يطلبون الكثير. يريدون فقط أن يأكلوا، أن يشربوا، أن يعيشوا كبقية أطفال العالم. يريدون أن يضحكوا لا أن يبكوا، أن يركضوا في الحقول لا أن يسقطوا في المقابر

لكن ماذا عن أم غزة التي تسمع صراخ طفلها من شدة الجوع والعطش؟ بماذا تجيبه؟ بماذا تطمئنه حين يبكي بلا توقف وجوعه يصرخ ودموعه تحرق قلبها؟ هل يمكن للأم أن تقنع طفلها الجائع بأن يصبر بلا قطرة ماء ولا لقمة طعام؟ لا أدري عندما أنظر إلى ابنتي الصغيرة، وأنت يا قارئ، هل تدري؟

بالأمس كان أطفالها لا يشربون الحليب إلا محلى، ولا يأكلون الفواكه إلا بطلب، وكانوا يلحّون على الجبن والكيك، وكانت الأم تحاول إقناعهم بشرب الحليب ولو جرعة حرصا على صحتهم، أما اليوم فأمنيتها فقط أن تجد لهم كسرة خبز أو حفنة طحين. كيف يحتمل هذا القلب الأمومي؟ كيف؟

تخيّلوا معي، هؤلاء الأطفال الذين لم يذوقوا طعم الحياة بعد، أصبح الجوع والعطش يقتلانهم ببطء. رأيت الصور والمقاطع فهي: أجساد صغيرة بلا لحم، عظام بارزة، أقراص فقرات تظهر من شدة الجوع. ألسنة عطشى، عيون غائرة متعبة، أرواح صغيرة تستغيث، أليس هؤلاء الأطفال هم روحنا؟ أليس البيت يبتهج بضحكاتهم؟ أليست الدنيا تترنم حين يضحكون؟

أليست الأم التي تسهر الليالي لا تشكو حين ترى فلذة كبدها يبتسم في حضنها؟ أليس الأب حين يعود منهكا من عمله يطير عنه كل التعب حين يركض إليه أطفاله كالعصافير؟ أليس الجد الذي تؤلمه ركبتاه وظهره يحمل أحفاده على ظهره ضاحكا؟ أليست الجدة ملجأ الأطفال حين يخطئون في البيت؟ أليس كذلك؟

أما الصورة التي لا تفارقني فهي لطفل شهيد لا يزال ممسكا بكيس الطحين حتى آخر نفس، كأن روحه تقول لأحبابه في الخيمة: “هذا لكم”

كل ما قرأناه عن الحقوق والإنسانية، هل دفن بلا كفن؟

لكن في غزة، هؤلاء الأطفال يموتون بلا دواء ولا طعام. بعد كل ما وصل إليه العالم من تطور وحداثة، يموت الأطفال جوعا! هل بقي لنا شيء من معايير الأخلاق والحضارة بعد هذا؟ كل ما قرأناه عن الحقوق والإنسانية، هل دفن بلا كفن؟ أظنها حيّة، وأتمنى لو كنت مخطئا.

قرأت قبل أيام عن أب غزّي خرج من بيته يبحث عن الإغاثة بعدما دخلت الدبابات منطقته. قال لزوجته وأطفاله: “انتظروني، سأعود ومعي من يغيثكم.” خرج إلى الشارع، وبعد عناء حصل على بعض المساعدة. لكنه حين عاد، انفجر بيته أمام عينيه واستشهدت زوجته وأطفاله جميعا.

لا أدري كيف يعيش هذا الأب اليوم إن كان ما زال حيا، هل يطيق ذلك أي أب أو أي إنسان؟ كأنما القلب ينفجر من الحزن.

وشاهدت أيضا مقطع فيديو لأخ صغير دخل خيمته يحمل كيس طحين. استقبلته شقيقته والأطفال بالرقص والفرح، كأنهم حصلوا على ألعاب جديدة.

لا أدري: هل كانوا فرحين بالطحين أم بعودة أخيهم حيا؟ أما الصورة التي لا تفارقني فهي لطفل شهيد لا يزال ممسكا بكيس الطحين حتى آخر نفس، كأن روحه تقول لأحبابه في الخيمة: “هذا لكم”. ، أما أنا فحياتي فداء لكيس طحين لأني أدرك قيمته لحياتكم يا أحبّتي.

يا أحرار العالم!

أطفال غزة لا يطلبون الكثير. يريدون فقط أن يأكلوا، أن يشربوا، أن يعيشوا كبقية أطفال العالم. يريدون أن يضحكوا لا أن يبكوا، أن يركضوا في الحقول لا أن يسقطوا في المقابر، أن يناموا بأمان لا تحت هدير الطائرات.

ولا أدري: كيف يستطيع من يقصف الأطفال أن يحضن أطفاله عند عودته إلى بيته؟

أليس الأطفال أرواحنا؟ أليسوا هم الحياة كلها؟ في بيوتنا نركض لأطفالنا إذا بكوا لنرى ما يريدون، وفي غزة يموت الأطفال جوعا وعطشا ولا أحد يركض إليهم إلا الموت

والعالم يغمض عينيه، صور الأطفال الذين يموتون جوعا تمر أمامه وكأنها مشاهد عابرة. كلمات المواساة لا تشبع الجائعين، وبيانات التعاطف لا تروي العطشى.

يا أحرار العالم! أليس الأطفال أرواحنا؟ أليسوا هم الحياة كلها؟ في بيوتنا نركض لأطفالنا إذا بكوا لنرى ما يريدون، وفي غزة يموت الأطفال جوعا وعطشا ولا أحد يركض إليهم إلا الموت، أليس كذلك؟

اليوم، يرحل أطفال غزة جوعا، وصورهم ستطارد ضمير الأحرار ما بقيت الحياة. فكيف نتحمّل العيش حينها؟ ولا أقصد من يظنّون أنفسهم أحياء وضميرهم ميت، بل أتحدث مع الأحرار فقط.

يا كل من لا يزال في قلبه ذرة رحمة: أطفال غزة ينادونكم. لا يريدون شعارات ولا بيانات، بل حقهم في الحياة. لا يريدون أن ينظر إليهم كأرقام في نشرات الأخبار، بل كأرواح تستحق أن تعيش.

إذا اعتدنا صور أجسادهم النحيلة وعيونهم الجائعة، فسوف نموت نحن قبلهم أو نعيش أمواتا.

قفوا مع غزة، فهناك أطفال ينتظرون من ينقذ أرواحهم قبل أن تطفأ ابتسامتهم إلى الأبد. 

الجزيرة