اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
لجأت مؤسسة الفتوى في مصر إلى الحكم ببطلان الزواج العرفي وكل ما يترتب عليه، دون التفات للأسباب التي قادت إليه، وهي رسالة حادة الهدف منها استغلال الهوس الأسري بالفتاوى لترهيب الشبان والفتيات من الإقبال على الزواج السري، ما أثار جدلا مجتمعيا لأن الحكم ببطلان الزواج العرفي كان شبه عام.
وجاء الاستثناء الوحيد من دار الإفتاء أن يكون الزواج العرفي مكتملا للشروط، أي بقبول الطرفين مع وجود شهود وموافقة وليّ أمر الفتاة، وقال المفتي نظير عياد إن هذا الزواج يكون صحيحا، وعدا ذلك باطل ولا يقره الشرع، مع أن الزواج السري يكون بالقبول بين شريكين وبعيدا عن الناس لتجنب منغصات أسرية للطرفين معا.
ورأى متحفظون على توجهات أعلى هيئة إفتاء مصرية بأن الحكم ببطلان الزواج السري الذي يُبرم بين طرفين دون موافقة وليّ أمر المرأة، يحمل نظرة ذكورية، لأن هناك نساء الولي الخاص بهن من الأعمام والأقارب قد يرفضون الزواج بلا أساب مقنعة، ما يدفع المرأة لتزويج نفسها عرفيا خاصة إذا كانت أرملة أو مطلقة وتعول أطفالا.
كما أن القانون نفسه لم يحمل تجريما أو عقوبات إدارية ضد المتزوجين عرفيا، بدليل أن هناك هيئات قضائية تصدر أحكاما بالخلع والطلاق من زواج سري، كما أن مؤسسات التسجيل المدني التابعة للحكومة تقوم بتسجيل أبناء الزواج العرفي ويلتحقون بالمدارس بشكل طبيعي ولا تسأل عن هوية الزواج ولا كيفية إبرامه أو موعده.
الفتوى بدت مثيرة للريبة لأن هناك الكثير من الفقهاء أقروا بمشروعية الزواج العرفي طالما توافرت فيه شروط الشهود
ويخشى حقوقيون أن يكون الحكم الديني على المتزوجين سريا ببطلان عقود زواجهم مقدمة لمنغصات أسرية بالغة التعقيد، لأن المجتمع يصنف نفسه على أنه متدين بطبعه، وتطبق غالبية الأسر خطاب الحلال والحرام، بما قد يحمل تحريضا غير مباشر ضد الشريكين المتزوجين سرا ويقيمان معا تحت سقف واحد.
وبدت الفتوى مطاطة ومثيرة للريبة لأن هناك الكثير من الفقهاء أقروا بمشروعية الزواج العرفي طالما توافرت فيه شروط الشهود، ولو كان الشهود شخصين فقط، وهو نفس المسار الذي يسلكه الكثير من الرجال والسيدات ممن يميلون لهذا الزواج لأسباب تخص حياتهم الأسرية، بما يربك حساباتهم عندما يُحكم على علاقاتهم بالبطلان شرعا.
ويظل الجزء الأكبر من المشكلة يرتبط ببطلان عقود الزواج السري وما يترتب عليها، ما دفع البعض للتساؤل حول مصير أبناء هذا الزواج، فهل سيؤثر بطلان العقود على نسبهم للأب، أم أن الزواج برمته محرّم ولا يحق للأبناء أن ينتسبوا لآبائهم، وما مصير زوجين قررا الاستمرار في العلاقة ورفضا الوصاية الدينية على حياتهما.
يوحي قرار مؤسسة الفتوى في مصر أنها بذلك تدعو الأسر إلى التفريق بين الرجال والنساء المتزوجين سرا، بدعوى أن تلك العلاقات تتنافي مع المقصد الأسمى من النكاح وأهدافه من حصول السكينة بين الزوجين، ونشر المودة بينهما، دون أن تدرك أن السكينة والمودة قد تكونا حاضرتين بعكس زواج معلن ويعلمه الجميع.
حقوقيون يخشون أن يكون الحكم الديني على المتزوجين سريا ببطلان عقود زواجهم مقدمة لمنغصات أسرية بالغة التعقيد
وهناك آراء تحدّثت عن خطورة الزواج السري على الأبناء وإنكار نسبهم في بعض الأحيان وضياع حقوق المرأة في مناسبات أخرى، لكن تعميم بطلان الزيجة في المطلق وإثارة الشكوك حول المشروعية الدينية عليها يورط الكثير من الأزواج في كيفية توفيق أوضاعهم وقد يحوّل حياتهم إلى جحيم إذا كان الإشهار سيجلب منغصات.
ويبدو التحريم المطلق للزواج السري نوعا من الترهيب الموجه إلى المجتمع نفسه، كي لا يغض الطرف عن تلك النوعية من العلاقات أو يتسامح معها، ويدفع الناس للحكم عليها بأن طرفيها يمارسان علاقات محرمة، ما يحمل تحريضا مجتمعيا.
والرأي الديني الرافض للزواج السري وإن كان معمولا به في حقب زمنية قديمة، هناك متغيرات طرأت على المجتمع من انفتاح ورفض للوصاية الدينية وتحرر شبابي وترك بعض الأسر أبناءها يؤسسون لحياتهم بالطريقة التي يرونها مناسبة لهم، ما يفرض على المؤسسة الدينية أن تتنحى جانبا، أو تتحلى بالمرونة في التعامل مع المستجدات.
وأكد الاستشاري الأسري والباحث في العلاقات الاجتماعية بالقاهرة غلاء الغندور أن تصدي الفتوى وحدها لمواجهة الزواج السري لن يحل المشكلة، ويجب أن يكون هناك خطاب عقلاني مرن يستقطب الشباب والفتيات لحثهم على التعامل مع مؤسسة الزواج بقدسية بعيدا عن العلاقات السطحية، لأن الجيل المعاصر يصعب عليه تقبل خطاب الحلال والحرام.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن تحريم الزواج العرفي جزء من الحل لكن لا يجب التعميم كي لا يتسبب ذلك في هدم كيانات أسرية مستقرة، لأن البطلان المطلق لكل زواج عرفي يؤدي إلى تعقيدات عائلية يُحكم فيها على المتزوجين سرا بأنهم يرتكبون محرمات، وهذا في حد ذاته يحمل ترهيبا مطلوبا في بعض الحالات لكن التعميم خطأ.
ثمة مبررات اقتصادية تدفع بعض الشباب إلى الزواج السري من فتيات ارتبطوا بهن عاطفيا ولا يستطيعون الجهر بذلك لأسباب عائلية
وإذا تمسّكت مؤسسة الفتوى بخطاب الترهيب لتبدو أمام السلطة متداخلة مع القضية بقوة، قد لا تنجح في خفض الزواج السري، لأن هناك شواهد تشير إلى أن من يقبلون على تلك العلاقات معروف عنهم التحرر من القيود والأعراف والعادات والتقاليد والرؤى الدينية الضيقة، وآخرون ينظرون إليه من منطلق رأي الدين.
من هؤلاء، شباب وفتيات جامعيون، ورجال ونساء كبار، لديهم مبررات منطقية في عدم الكشف عن علاقاتهم الزوجية، وهناك أزواج قد يلجأون إلى الطلاق ثم يتزوجون سرا لتحصل الزوجة على معاش المطلقات، وهذا ما سبق وحرّمته مؤسسة الفتوى لأن تلك الأموال مملوكة للشعب ولا يحق للمتزوجة سرا الحصول عليها.
ويعني ذلك أن الشريحة التي تقبل على الزواج العرفي لا تعترف بوصاية الفتوى عليها، أو تعتبرها متحكمة في علاقاتها وخططها المستقبلية ومشاعرها الإنسانية، كما أن نفس الفئة لا تعير اهتماما بقبول أو رفض الأسر لخطوة الزواج السري أمام انفراط عقد كثير من العائلات في احتواء أبنائها وتتركهم أحرارا في تحديد مصائرهم.
وثمة مبررات اقتصادية تدفع بعض الشباب إلى الزواج السري من فتيات ارتبطوا بهن عاطفيا ولا يستطيعون الجهر بذلك لأسباب عائلية، كما أن بعض الرجال المتزوجين الذين يلجأون للزواج من امرأة أخرى لغرض عاطفي يبررون هذا التصرف بأنه حل وسط لعدم الانفصال عن الزوجة الأولى وهدم كيان الأسرة خاصة إذا كان بها أبناء في المدارس.
وشريحة ثالثة من المتزوجين سرا يسلكون هذا المسار لإجبار العائلتين على القبول بالأمر الواقع، كأن يتزوج الشاب من فتاة سبق وأن رفضته أسرتها لكنه يؤسس معها العلاقة بشكل عرفي بقطع النظر عن تقبل المجتمع والدين لهذا الزواج من عدمه، ما يعني أن العديد من الزيجات العرفية سببها أخطاء أسرية وتدخلات عائلية مدفوعة بعادات وتقاليد بالية.
ويزيد استسهال مواجهة الزواج السري بالترهيب الديني المشكلة تعقيدا، لأن هذا التوجه يعفي الأسر نفسها من تحمل المسؤولية الأكبر، وكان الأولى أن تحرم مؤسسة الفتوى التدخلات العائلية الفجة في اختيارات الأبناء، أو تتصدى لوصاية المجتمع على أفراده وتقرّ بحق كل شخص في تحديد مصيره بما يتناسب مع ظروفه لا وفق التقليد والعرف.
المصدر: العرب