الأدب المقاوم في غزة: كيف تصنع كاتبات فلسطينيات ذاكرة الفقد وتحاربن النسيان؟

في قطاع أنهكته الحرب وأثقلته الفجائع، تظهر تجربة نسائية تختلف عن ما اعتاده المشهد الإعلامي. فهنا، ليست النساء مجرد ناجيات أو ضحايا، بل صانعات ذاكرة جماعية جديدة، يحوّلن الفقد إلى كتابة، والكتابة إلى فعل مقاومة.
الأدب المقاوم في غزة

خلال العامين الأخيرين برزت أعمال أدبية لعدد من الكاتبات الغزيات اللواتي وجدن في الحبر مساحة لتنفس الروح، وفي الكلمات ملاذًا يحفظ ما تبقى من ملامح عالم تهشّم وهذا هو الأدب المقاوم في غزة.

ذاكرة تُكتب لا لتُروى فحسب

الكاتبة هنادي سكيك

الكتابة ليست مجرد مشروع إبداعي، بل وسيلة لإنقاذ ما تبقى من الذات، ولتثبيت أثر من رحلوا كي لا تبتلعهم أخبار الحرب الباردة والصفحات الرسمية. وفي هذا السياق، تقدّم الكاتبة هنادي سكيك واحدة من أبرز الشهادات على تحوّل الألم إلى كتابة، فقدت هنادي عشرين فردًا من عائلتها في يوم واحد: والدتها، إخوتها، زوجاتهم وأطفالهم، زوجها، ابنها البكر، وأحفادها. خرجت من تحت الركام بعد ساعتين من الاستهداف، وبدأت بعد ثلاثة أشهر من رحلة العلاج محاولة لملمة وعيها.

 تقول: “طلبتُ في منزل النزوح مصحفًا ودفترًا وقلمًا فقط، استكملت حفظ القرآن، وبدأت أكتب كل ما حدث بالتفصيل حتى لا تنسى الذاكرة. الكتابة كانت توثيقًا للحدث وتفريغًا للنفس وتثبيتًا للقلب.”

هكذا أصبحت يومياتها، بين الذاكرة والمذكّرة، بذرة روايتها التي افتتحتها بآية الابتلاء والصبر: [ولنبلونكم… وبشر الصابرين]. بالنسبة لها، لم تكن الكتابة ترفًا، بل مقاومة ضد المحو. تقول هنادي: “الكتابة لها دليل، ودليلي في الكتابة هو زرع قوة المرأة الغزاوية وصمودها كالعنقاء التي تخرج من تحت الرماد لتنهض من جديد، وتجربتها تزيدها قوة وثباتًا واحتسابًا.”

حين يصبح الحطام مادة للغة

الكاتبة آلاء القطراوي

برز اسم الكاتبة آلاء القطراوي بعد الحرب من خلال أعمال نسجتها من قلب الفقد. آلاء التي فقدت أطفالها الأربعة تقول:  “أكتب لأنني أبحث عن نافذة وسط الظلام، كي لا يتحول شهداؤنا إلى أرقام. أبنائي الأربعة كانوا إلهامي في كل ما كتبت.” بالنسبة لها، لم تكن الكتابة محاولة لخلق عالم بديل، بل جسرًا يربطها بأطفالها الذين رحلوا. تضيف: “الفقد يجعل الكتابة محاولة لتخليد من نحب. أشعر حين أكتب عن أحد أطفالي أنه سعيد، وكأن الرباط الروحي بيننا يشتد.”

تمخضت تجربة آلاء عن ثلاثة كتب: “يكلّمني كِنان”، “مسرحية أوركيدا”، و*”فراشتي التي لا تموت”*، التي لاقت انتشارًا واسعًا. تقول: “شعرت أنني أستطيع أن أفكّ عن روحي الحصار، وأن تصل كلماتي إلى الناس. كثيرون أخبروني أن كتابتي كانت تخفف عنهم، وأن صبري علّمهم معنى الثبات”.

 ورغم الألم، ترى أن الكتابة ساعدتها على التعافي، وتردف: “أفرّغ مشاعري على الورق فأصبح أكثر قدرة على التحكم بها، وهذه نعمة من الله.”
أدب نسوي يتجاوز صورة “الضحية”.

تتجاوز هذه النصوص الصورة التقليدية للمرأة في الحرب، تلك التي حُشرت طويلًا في إطار الضحية الصامتة. هنا، النساء هنّ الساردات، الشاهدات، ومنتجات المعنى. ومن هذا المنظور، تقدّم الكاتبة والصحفية إسراء الرملي رؤية مختلفة لدور الكتابة، تقول: “انطلقت نحو الكتابة لأنها مسؤولية وليست اختيارًا. شعرت أن واجبي نقل التجربة كما عاشها أهلها. كتبت لأحفظ الحقائق، ولأمنح أهالي الشهداء وضحايا الحرب مساحة لاستعادة حضورهم ووجودهم خارج إطار الرقم والإحصاء. الكتابة بالنسبة لي شكل من أشكال البقاء الأخلاقي.”

وتضيف حول أثر الفقد:  “لم أكتب عن المعاناة من بعيد. فقدت والدي وأحفادنا وجدي وعددًا من أفراد العائلة، ونزحت أكثر من ثلاثين مرة، لذلك ركزت على الإنسان قبل الحدث.” أما عن القارئ فتقول: “أتمنى أن تُقرأ التجارب بعمق، بلا شفقة، وأن يشعر القارئ أن صوت أصحاب القصص وصل.”

وترى إسراء أن الكتابة لم تكن طريقًا للتعافي بقدر ما كانت وسيلة لتنظيم الألم وفهمه، وتقول: “في كل نص أكتبه أحاول ألا أترك التجربة معلّقة داخل الذاكرة دون معنى أو أثر. لم أتعافَ بعد، لكن الكتابة منحتني قدرة أكبر على مواجهة ما حدث ونقله بوضوح ومسؤولية. إنها ليست راحة كاملة، لكنها توازن ضروري للاستمرار.”

حفظ الهوية في زمن المحو

الكاتبة إسراء الرملي

تكمن أهمية هذا الأدب في كونه ذاكرة موازية للحرب؛ ذاكرة لا تعتمد على الأرقام، بل على ما ينجو من الروح. الكلمات تحفظ ملامح البيوت التي سقطت، والأسماء التي لم يعد لها عنوان، والضحكات التي ضاعت مع أصحابها. هذه التجارب وغيرها تؤكد أن الكتابة ليست فقط لتدوين ما حدث، بل لمقاومة محاولات طمس التاريخ الفلسطيني، ولتقديم رواية شديدة الإنسانية تحفظ المعنى والهوية.

وما تفعله هذه الأصوات النسائية هو إعادة توزيع السلطة على السرد. بدل أن يكون الخطاب حول غزة حكرًا على الإعلام العالمي، باتت النساء يكتبن نسختهن الخاصة من الحكاية، بوصفهنّ فاعلات في التجربة لا مجرد شهود عليها. كل نص يصدر بعد الفقد هو محاولة لترميم ما تهشّم في الروح الجمعية.

وفي زمن يُراد فيه للمأساة أن تُنسى، تقف هؤلاء الكاتبات شاهقات في مواجهة العدم، يكتبن لا ليخففن الألم، بل ليمنحنه معنى، وليبقى أثر غزة في اللغة كما بقي في الوجدان.

بنفسج