الاحتراق الوظيفي في غزة تحت القصف.. نساء يعملن في ظل الحرب

لم يكن الانهيار خيارًا أبدًا في غزة، فهنا لا وقت لالتقاط الأنفاس، والحياة تسير بوتيرة ركض مستمر، تعاني الموظفات خلال الحرب من احتراق وظيفي لا يشبه ما يعانيه موظفو العالم، إذ تختلف الظروف كليًا، النساء يواصلن أداء مهامهن المهنية، ثم يتولين مسؤولياتهن المنزلية فور الانتهاء، دون قدرة على التوقف أو الاستراحة، التزامًا بالواجب المهني وبغية تأمين مصروفاتهن في ظل حرب ضروس أنهكتهن اقتصاديًا واجتماعيًا.
الاحتراق الوظيفي

لكن، مصير الجواد أن يكون له كبوة، يعانين لحظات الاكتئاب والحزن، لكن الانسحاب من أداء مهامهن عبث، فالواجب أكبر من أي شعور مؤقت بالضعف،  ورغم كل التعب والإرهاق النفسي، والألم الممتد، يعملن لكن بإرهاق لا ينتهي، ومحاولات تحايل على أنفسهن لمواصلة مشوار الحياة المرهق رغم الاحتراق الوظيفي.

هنا نحكي مع موظفات عملن طوال عامين من الحرب، كل منهن تحكي عن تجربتها ومشاعرها، والمواقف التي أرهقتها، لكن الانهيار لم يكن مطروحًا آنذاك على الأقل، لكن الآن كل ما خبأنه من تعب في الليالي الحالكة، يلاحقهن الآن، مطالبًا إياهن بترفيه نفسي يعيد لهن ما تبقى منهن من روح.

مخاطرة بالحياة 

IMG-20251201-WA0043.jpg

يُعرف الاحتراق الوظيفي بأنه حالة من من الإرهاق الجسدي والنفسي والعاطفي نتيجة التعرض للضغوط في بيئة العمل، تتمثل أعراضه في فقدان الاهتمام بشيء، وشعور بعدم الكفاءة، والإجهاد المستمر وعدم القدرة على مواجهة المسؤوليات، لكن في غزة يعاني الموظف من إرهاق من نوع آخر إضافي، ضغوط الحرب والخوف على حياة العائلة، وضغوط الحياة المعيشية في ظل الغلاء والمصاريف المستحدثة.

 الصيدلانية سحر الطويل واحدة من الموظفات التي تعاني من إجهاد ذهني وجسدي، تعمل في مشفى العودة في النصيرات، تقول بصوت منهك: “كنت بالحرب أخرج وأنا أخاف من استهداف مفاجيء للمشفى، فكان الأمر مرهقًا جدًا، مطلوب منيَّ التركيز في المهام الوظيفية ومنع خوفي، كنت أبتسم للمرضى وأخفف عنهم وأنا في حاجة لمن يطبطب علي”.

 على الرغم من إجهادها ورغبتها في التوقف والانطواء في زواية لوحدها دون سماع قصص المكلومين ومشاهدتهم وهم يأتون لصيدلية المشفى، يظهر على وجوههم الهموم، تضيف: “ما يجعلني أكمل عملي شعوري بأن وجودي فارق ويخفف ولو عن شخص بكلمة حنونة، هنا شعور العطاء يمنحني قوة وأمل”.

ارتجفت سحر كثيرًا عندما قُصفت ساحة مشفى العودة، وضعت على بطنها تحاول حماية جنينها الذي وصفته بـ”العزيز”، لأنه جاءها بعد شوق وطول انتظار، ومنذ معرفتها بحمله تضاعف خوفها. تقول وهو تلمس بطنها: “حملي جعلني في معركة رسميًا، صار لزامًا علي تحمل خوف الحرب وتعب الحمل، وممارسة العمل تحت القصف، ومقاومة الإجهاد والضغط النفسي والاحتراق الوظيفي الذي يختلف عن ما يعانيه غيرنا خارج حدود غزة”.

تعرضت سحر إلى مواقف هزتها من الداخل، كانت تود الهروب والبكاء حينها بكاء لا ينتهي، تردف بمرارة: “كنت في صيدلية المشفى وجاءت فتاة مع والدتها لصرف علاجهم، وإذ بإصابات تأتي متتالية، وإذ بالسيدة تُصاب بنوبة هستيرية من البكاء، حتى تراجعت أنا خطوة للوراء من هول الموقف، لتخبرني ابنتها أن أمها فاقدة لطفلها وكلما رأت أطفال شهداء تبكي، لا أنسى صراخها وهي تقول: “وين إمه ودوني عندها.. بدي أواسيها.. خلوها تحضنه قبل ما ياخدوه”.

انهيار خفي

IMG-20251201-WA0042.jpg

أما المعلمة إسلام محمود التي تعطي دروسًا خصوصية في مركزها التعليمي الخاص، كان احتراقها الوظيفي يظهر على شكل نوبات صداع، تستيقظ من النوم لا تود النهوض أبدًا، يلازمها شعور الإرهاق، لكن وجوه طلابها ما يدفعها لمقاتلة نفسها.  تقول مبتسمة: “في أوقات كثيرة أود أخذ فاصل من التعليم، لكن ما يمنعني امتحانات الأطفال ورغبتهم في التعلم، في بداية الحرب كان الخطر أكبر منا جميعًا فألغيت كل الدورس ورفضت استقبال الطلاب، لكني عدت لاحقًا مع تحسن الوضع قليلًا”.

يرهق إسلام شعور القلق على طلابها، تشعر بالمسؤولية تجاههم، تظل قلقة وهم في طريقهم للدرس وحين يغادروها توصيهم ماذا يفعلوا أن حدث استهداف في الشارع، ولا تطمئن إلا بوصولهم لخيمتهم أو منزلهم، ما انعكس على صحتها النفسية وزاد من معدل توترها. تضيف لبنفسج: “في مرة حدث قصف قريب لم أعرف كيف أخذت الطفل الذي كنت أعطيه الحصة وركضنا بعيدًا خوفًا من أن تُصيبنا الشظايا، كان مطلوبًا مني أن لا أظهر خوفي أمامه، وأظل ثابتة، لكن كنت منهكة جدًا من خوفي وإرهاقي”.

                    “أمنيتي ترجع المدارس وأشوف الأطفال واقفين بطابور الصباح مش طابور المية والتكية”.

لا تقتصر دروس إسلام على المنهاج الدراسي، بل هي مستمعة جيدة لطلابها، تبكي على أحلامهم المدفونة، في المجاعة كان الصغار يخبرونها أن أحلامهم الكامنة في رغيف خبز فقط، فتبكي معهم، تقول: “في أحد الحصص توقف الطالب عن حل المسائل وبقي يبكي لفترة، حتى حكى لي قصته باستشهاد والده وكم هو يفتقده، فلم يكن مني إلا عانقته وبكينا معًا”.

على الرغم من إرهاقها ورغبتها في التخفيف عن نفسها،  تواصل إسلام العمل والموازنة بين مهامها المنزلية ما بين الطبخ والتنظيف، تختم حديثها: “أمنيتي ترجع المدارس وأشوف الأطفال واقفين بطابور الصباح مش طابور المية والتكية”.

لا جدوى!

IMG-20251201-WA0044.jpg

فيما تعاني سها سكر من انعدام الأمن الوظيفي كونها تعمل صحافية حرة، إلى جانب إجهادها من العمل وهي توثق مأسي الناس، ما يدخلها في حالة من الحزن والاكتئاب المضاعف. تقول لبنفسج: “تزايد في الآونة الأخيرة شعور أنني أعمل دون نتيجة، فحال الناس الذي أوثق عنهم لا يتغير، الحرب بدأت من جديد حتى حربي أنا لم تنته أبدًا، شعور أنني أصبحت بلا مأوى يزيدني ألمًا وحزنًا”.

تحاول سها أن لا تستسلم، تعمل ولا تتوقف حتى لا تترك نفسها لدائرة اليأس والحزن، تعتبر أنها لو تركت نفسها لحزنها ستنهار وستبقى تدور في الحلقة المفرغة للاكتئاب، “الشغل مهرب إلي.. على الرغم من أنه بزيد تعبي لكن شعور أني ممكن أفيد انسان بمساعدة مالية لما بوثق عنه بسعدني”.

كما أن العمل يمنح سها مستحقًا ماليًا يساعدها في توفير احتياجاتها التي بدأت بتجميعها من الصفر؛ الآن تكثف من عملها لتستطع من شراء ملابس شتوية وأغطية في ظل عدم اهتمام أحد بهم، لذلك هي مضطرة للمضي قدمًا وعدم الاستسلام والانهيار، تعمل بحزنها بعدم قدرتها على الاستمرار، وتعد الأيام عدًا منتظرة تحسن الأحوال.

يواصلن النساء في غزة العمل بقلوب منهكة، قضت عليها الحرب، يعانين الاحتراق الوظيفي والحزن والاكتئاب، ورغم ذلك، يثابرن في أداء مهامهن المنزلية والعملية لأنه لا وقت للانهيار مطلقًا، ينتظرن أن تسمح لهن الحياة بتنهيدة طويلة يخرجن فيها من عانين من ألم.

بنفسج