اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
تحولت الشاشات إلى ما يشبه “الأم البديلة” أو “المربي الخفي” الذي يتسلل إلى عقل الطفل ومشاعره وقيمه دون حواجز، في وقت انشغل فيه الكبار بمشاغل الحياة، أو انخرطوا بدورهم في الإدمان الرقمي.
الواقع أن الجميع مسؤول، وبدرجات متفاوتة. فحين تتخلى الأسرة عن دورها التربوي لصالح الشاشة، يصبح الطفل عرضة لأي مؤثر خارجي. وحين لا تدمج التربية الإعلامية في المناهج الدراسية، يبقى المتعلم هشا أمام الإغراءات الرقمية
في الأجيال السابقة، كانت الأم تحكي لأبنائها قبل النوم، توجههم خلال اليوم، وتضبط سلوكهم في المواقف المختلفة. وكان للجدة نصيب من الغرس القيمي العفوي من خلال القصص الشعبية، والأمثال، والحِكم.
أما اليوم، فقد أسندت هذه المهام -من غير وعي- إلى فيديوهات قصيرة وسطحية، وألعاب إلكترونية تروج للعنف، أو الفردانية، أو الانبهار بالشكل بدلا من المضمون.
الطفل الذي كان يربى على “افعل” و”لا تفعل” داخل الأسرة، أصبح يعاد تشكيله من خلال محتوى لا يخضع لأي معيار أخلاقي، ولا يراعي السياق الثقافي أو القيمي.
تطرح هذه الظاهرة سؤالا محوريا: من المسؤول عن هذا التحول الخطير؟ هل هي الأسرة التي استسهلت الحل الرقمي؟ أم المؤسسات التعليمية التي لم تجارِ التغيرات؟ أم الإعلام الذي ضاعف التأثير السلبي بدلا من أن يقوم بدوره التوعوي؟
الواقع أن الجميع مسؤول، وبدرجات متفاوتة. فحين تتخلى الأسرة عن دورها التربوي لصالح الشاشة، يصبح الطفل عرضة لأي مؤثر خارجي. وحين لا تدمج التربية الإعلامية في المناهج الدراسية، يبقى المتعلم هشا أمام الإغراءات الرقمية. وحين يتهافت الإعلام على الربح دون الالتزام بأخلاقيات المهنة، يساهم في تسطيح الوعي الجماعي.
الأخطر من ذلك أن هذه الشاشات لا تؤدي دورا محايدا؛ فهي لا تكتفي بعرض المعلومات، بل توجه المشاعر والسلوك، وتعيد تشكيل صورة “القدوة” في ذهن الطفل. لم يعد القدوة هو المعلم أو الوالد أو العالِم، بل أصبح “اليوتيوبر” أو “المؤثر” الذي يثير الجدل، أو ذاك الذي يحقق نسب مشاهدة عالية، حتى ولو كان يقدم محتوى فارغا.
إذا كانت الأسرة قد استسلمت، فإن المدرسة -للأسف- لم تملأ الفراغ. فما زالت المناهج تقدم دروسا تقليدية لا تواكب العصر، ولا تزود التلميذ بأدوات التفكير النقدي التي تمكنه من التمييز بين الغث والسمين فيما يشاهده
أمام هذا الوضع، لم تعد القضية مجرد قضية تربية، بل أصبحت مسألة هوية. فالطفل الذي يستهلك محتوى بعيدا عن ثقافته ولغته وقيمه، سينشأ حتما بمفاهيم مغلوطة عن ذاته، ومجتمعه، ودينه. سيفقد اللغة الفصحى لصالح العامية المهجنة، وسيرى في التقاليد رمزا للتخلف لا عنصرا للتماسك.
إذا كانت الأسرة قد استسلمت، فإن المدرسة -للأسف- لم تملأ الفراغ. فما زالت المناهج تقدم دروسا تقليدية لا تواكب العصر، ولا تزود التلميذ بأدوات التفكير النقدي التي تمكنه من التمييز بين الغث والسمين فيما يشاهده. بل إن المدرسة كثيرا ما تكون بيئة طاردة، تكرس الرتابة والانفصال عن الواقع.
المطلوب اليوم ليس فقط تشخيص المشكلة، بل مواجهتها من خلال:
إن مسؤوليتنا الجماعية والفردية تفرض علينا حماية أطفالنا ومجتمعاتنا من الانجراف خلف هذا الإدمان الرقمي، والعمل على خلق بيئات صحية ومستقرة تنمي القيم والروابط الاجتماعية الحقيقية، وتعيد للأم مكانتها التي لا يمكن أن تحتلها شاشة أو أي تقنية أخرى
لا يمكننا تجاهل أن الشاشات أصبحت اليوم أكثر من مجرد أدوات ترفيه أو وسائط اتصال؛ بل تحولت إلى ظاهرة اجتماعية عميقة التأثير في بناء شخصية الأجيال القادمة وتشكيل رؤيتهم للعالم وللعلاقات الإنسانية.
فحين تصبح الشاشات “الأم البديلة”، نواجه تحديا وجوديا يتطلب وقفة جادة، وإعادة نظر في طريقة تعاملنا مع التكنولوجيا، وكيفية توجيهها لخدمة الإنسان لا السيطرة عليه أو استبدال أدوار أساسية في حياته.
إن غياب الحنان الحقيقي، والاهتمام المباشر، والتفاعل الإنساني الصادق، لا يمكن أن يعوضه أي جهاز مهما بلغت قدرته على جذب الانتباه أو الترفيه.
لذا، فإن مسؤوليتنا الجماعية والفردية تفرض علينا حماية أطفالنا ومجتمعاتنا من الانجراف خلف هذا الإدمان الرقمي، والعمل على خلق بيئات صحية ومستقرة تنمي القيم والروابط الاجتماعية الحقيقية، وتعيد للأم مكانتها التي لا يمكن أن تحتلها شاشة أو أي تقنية أخرى.
إن المستقبل الذي نبنيه لأجيالنا لا ينبغي أن يكون شاشة تتلألأ في الظلام، بل حياة تنبض بالحب والإنسانية، وإيمانا عميقا بأن لا شيء يعوض دفء الإنسان وصدق العلاقة بين البشر. فلنكن واعين، ولنواجه هذا الواقع بجرأة وحكمة، لأن حماية الإنسان في زمن التكنولوجيا هي حماية للإنسانية ذاتها.
الجزيرة