اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
المرأة الفلسطينية حاضرة في كل ساح وجاهزة لأي نوع من المواجهة وهي أقوى من أن تُهزم. فالتّاريخ يشهد على بسالتها ومقدرتها وعلى إيمانها بأرضها وصبرها على جراحاتها. كيف لا، ومنذ أن وُلدت وهي تنسج قصة موطنها وتُدون بالإبرة حكاية عمرها على الثوب الذي يخرج من بين أيديها تحفة فنيّة مزخرفة بالنقوش وبالألوان التي تدلّ على مسقط رأسها وتُشير إلى أحواله وشؤونه وأحوال صاحبته وحياتها ووضعها الاجتماعي.
لقد كان التطريز جزءا مهما في حياة المرأة الفلسطينية، منذ نعومة اظفارها عندما تستطيع الإمساك بالإبرة وتتحكم بخيطها تشرع بتعلّم هذا الفن من أمها وجدتها. فتبدأ الفتاة بعمر صغير جداً بتزيين مقتنياتها وثيابها بأناملها الصغيرة، وتتقن في إختيار الألوان وتنسيقها وفي تطريز أشكال الغرز المختلفة فتسابق أقرانها وتعمل بجد حتى تتميز عنهن في تطريز جهاز عرسها والذي عادة ما يشمل أغطية، وشراشف، ووسائد ومحارم وأثواب، فتُثبت براعتها وتفوقها وتستحق تميّزها أمام عريسها وفتيات منطقتها. وهكذا ينتقل فن التطريز من الجدة إلى الأم ثم إلى الحفيدة فينتقل عبر الأجيال.
كانت أيام الأعياد والتسوّق فرصة النّساء المثاليّة لتبادل الرّسوم والتعّرف على نماذج تطريز مختلفة ومتنوعة. فالنساء حين تتجمعن في الأسواق يخلقن لوحة جغرافيّة فنيّة بتقاطيع الزمان وببصمة الأمكنة، فكان بالإمكان تمييز المنطقة التي تنتمي إليها كل واحدة منهن من التطريز الذي يزين ثوبها الذي يختلف شكله بحسب المنطقة الجغرافية، بل أنّه يُمكن تحديد القرية من طريقة تنسيق الثوب وما يكتسيه من رسوم وأشكال تطريزية والّـتي يتم تبادلها ودمجها وخلق جديد منه عند الزواج بين الرجال والنساء من قرى مختلفة. فرصة أخرى لنقل الرسوم بين القرى المختلفة، ثم تطورت وسائل النقل من قطارات وحافلات وسهّلت التنقل بين القرى وزيارات الأهل، وتبادل الرسوم التطريزيّة، وهكذا عبر الأجيال أكسبت التغييرات البسيطة الثوب رونقا متجددا، وأرضت رغبة النساء في خلق عالمهن الجمالي الخاص.
كانت النسوة من القرويات والبدويات يطرزن بخيوط الفضة والحرير والذهب منطقة الأكتاف والجوانب والأكمام والصدر في الثوب. ويستخدمن هذه الخيوط في تصاميم على شكل حليّ وتطريز زخارف نباتيّة، في بيت لحم. أمّا في حيفا فقد رسمن البرتقال، وفي الجليل بشمال فلسطين طرزن بالخيوط الحمراء والزرقاء الأزهار وأوراق الشجر، في قرى نابلس وطولكرم تُزين الاثواب بشرائط ملونة و تقل التطريزات، وفي بئر السبع استوحت النساء نقوش ثيابهن من السماء فزيّنتها بأشكال النجوم لأن هناك تقل الأشجار، وفي الخليل نسجت النساء أشكال العنب والزيتون.
تنوع فن التطريز وتميّزت الغرز، فالنساء في المدن يلبسن لباسا متأثرا بالزي العثماني، وفي القدس وبيت لحم تظهر غرز أخرى مثل التحريرة والتلحمية، والقرى التابعة ليافا وبئر السبع والخليل ورام الله وغزة لبست النساء الزي التقليدي، وكانت غرزة التطريز الفلاحي تُستخدم بكثرة، ، فيما كانت من ناحية ثانية، فقد استوحى الزي الفلسطيني ألوانه من الطبيعة، من الأصالة والعراقة من شرف الحياة وعرضها يُساوي الأرض. فاللون البني من لحاء الشجر، ومن الزعفران جاء اللون الأصفر، ومن نبات النيلة جاء اللون الأزرق، واللون الأحمر الأرجواني استوحوه من صدفة الموركس التي تُجلب من ساحل البحر المتوسط. هذه الألوان في التطريز تعبّر عن حياة المرأة الفلسطينية، فالفتاة ترتدي ثوبا مطرزا باللون الأزرق، بعد الزواج تطرز أثوابها باللون الأحمر، والأرملة تغطي الغرزة الحمراء باللون الأزرق، وتطعّمها بألوان أخرى، وحين تكبر المرأة بالعمر تميل لاختيار تطريزات أخف، وتختار ألوانا داكنة.
تاريخ الثوب الفلسطيني
وتشير المصادر التاريخيّة إلى انتشار مشاغل النسيج في أنحاء فلسطين في العصور الإسلاميّة، وكانت غزة من أقدم المدن التي اشتهرت بصناعة النسيج إلى جانب الناصرة والمجدل. وقد حلّت ضائقة مالية قبل نكبة ۱۹۴۸ وقد أدّى ذلك إلى إرتفاع ثمن الخيوط والأقمشة التي اعتادت النساء الحصول عليها، وكذلك تعذر دخولها إلى الأسواق كما كان سابقا، وعليه صار من النادر أن تنتج النساء أثوابا جديدة.
أتت النكبة في ۱۵-۰۵-۱۹۴۸، وخرجت نساء القرى في فلسطين بتلك الثياب التي تحمل قصة أيامهن، وبقي الثوب، مع مفتاح الدار، إحدى الذكريات القليلة التي حملتها النساء، بعد ضياع الأرض. كذلك لم يسلم من محاولات السرقة والطمس مثل كل التراث الفلسطيني، وصار ميدانا لمعارك متكررة بوجه الإدعاءات المتكررة بأنه أحد الموروثات «الإسرائيلية». فكانت الأحداث تُلقي بظلالها على النقوش والتطريزات التي يحملها الثوب الفلسطيني الذي يحمل عناصر الطبيعة في كل قرية: عباد الشمس والنخيل والسنبلة وزهر البرتقال، والزهرة. وأضاف كل جيل عنصرا تأثر به، فدخلت على الثوب عناصر أخرى شيئا فشيئا، فقد ظهر الهلال والنجم في التطريز من وحي العَلَم العثماني. وخلال فترة الانتداب البريطاني بدأ استيراد أنواع مختلفة من الأقمشة الأوروبيّة، فاختلفت أنماط التطريز وأنواع الخيوط وكذلك نعومة وجودة القماش، وظهرت حينها ألوان جديدة على التطريز الفلسطيني وأصبح بالإمكان استخدام مجسّمات وأشكال أكثر تعقيدا مثل النباتات والأزهار والحيوانات والطيور والجِرار.
وبعد النكبة، ومع تفاقم الضائقة الماليّة، لجأ بعض النساء إلى بيع أثوابهن إلى المتاحف بسبب الحاجة إلى النقود، وكانت الباحثة الفلسطينية وداد قعوار إحدى مَن تسابقن للحصول على تلك الأثواب الثمينة، يبلغ عدد الأثواب التي تحتفظ بها في متحفها اليوم نحو ثلاثمائة ثوب عربي.
أمّا في المخيمات، وبفعل الاختلاط بين النساء من عدة قرى ومناطق، فقد ظهر شكل جديد للثوب الفلسطيني، مزج بين الأشكال والتنسيقات والغرز التطريزيّة بين أكثر من منطقة وقرية، ولم يعد بالإمكان تمييز المنطقة التي تنتمي إليها صاحبته بعد ذلك.
وبحلول نهاية الستينيات، وبفضل سفر عدد من الفلسطينيين إلى دول الخليج الفارسي، وتدفق الحوالات المالية إلى أسرهم، بدأت الأزمة الماليّة بالإنفراج نوعا ما، فعادت النّساء لشراء الأقمشة والخيوط، وأبدعت المرأة الفسلطينيّة من جديد بإستخدام مخزونها من التعليم والتبادل المعرفي مع رفيقاتها في المخيمات على مدى عقدين من الزمن، لتأتي بتطريزات تشكيلات جديدة ومتميّزة ويعبق منها عطر الأرض وتاريخ الصّمود.
السرقة الصهيونية العلنيّة للتراث الفلسطيني
نشرت زوجة موشيه دیان، وزير الدفاع الإسرائيلي، في ستينيات القرن الماضي، صورة لها في الموسوعة الإنجلیزیّة وهي ترتدي الثوب الفلسطيني في زيارة رسميّة إلى البيت الأبيض، باعتباره ثوبا «إسرائيليا»، وقد جمعت عددا من الأثواب والمشغولات الفلسطينيّة وأقامت معرضا لها وأرشفت محتوياته على أنها تراث «للكيان». وعلى ذات النهج، كان عدد كبير من المسؤولين في الحركة الصهيونيّة يصطحبون زوجاتهم في الزيارات الرسميّة وهن يرتدين الزي الشعبي الفلسطيني. ليس هذا فحسب بل ظهرت ملكات جمال العالم أثناء زيارتهن المتعاقبة إلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلة بالثوب التقليدي الفلسطيني باعتباره تراثا إسرائيلياً. بالإضافة إلى إعتماد شركة طيران العال (إلى السماء) الزّي الشعبي الفلسطيني زيّاً لمضيفاتها، ووزعت كتيبات تحمل معلومات عن التراث الفلسطيني وتقدمه للقراء على أنه تراث «صهيوني».
الثوب الفلسطيني رمز للمقاومة المستمرة
إنّ المعركة الثقافيّة والحضاريّة والفكريّة والعقائديّة لا تقل أهميّة عن المعركة حول الأرض، فالجهاد مستمر لتثبيت الهويّة الفلسطينيّة الأم والتأكيد على أنّهم أصحاب الأرض وأهل الحق أمام محاولات الإحتلال الدائمة لطمس الهويّة وسرقة كل ما تصل إليه يداه. وقد تمّ تسجيل الثوب الفلسطيني بإسم الكيان في المجلد الرابع من الموسوعة العالمية (Encyclopedia) عام ۱۹۹۳، وبعد جهد سنوات من المقاومة والإصرار، تمّ تصحيح المعلومات وتسجيل الحقيقة بأنّ “الثوب الجديد” هو ثوب فلسطيني وقد تمّ ذلك عام ۲۰۰۷٫
وما عُرف بـ«الثوب الجديد» بدا وكأنه يوحد فلسطين، ولعب دورا مهما في الإنتفاضة الأولى، فقد كان ارتداؤه بما يحمله من رمز للهويّة الفلسطينيّة بديلا عن رفع العلم أحيانا، وراحت النّساء يطرزن عليه خارطة فلسطين، والحروف الأولى من اسم منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف) بألوان العلم الفلسطيني الأربعة: الأحمر والأخضر والأبيض والأسود، وحمل ثوب الانتفاضة نقوشا جديدة أبرزها أغصان الزيتون وحمامة السلام. وفي عام ۲۰۲۱ أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربيّة والعلم والثقافة (اليونسكو) «فن التطريز في فلسطين» على لائحتها للتراث الثقافي غير المادي، لتحقق المقاومة الثقافيّة انتصاراً آخر يحمي أحد أهم عناصر الهويّة من محاولات السرقة الإسرائيلية. وهذا إذ يُؤكد أن الثوب الفلسطيني وثيقة وهويّة وسلاح يُحافظ به على التراث من خلال جهد المرأة الفلسطينية التي كانت أمينة في حرصها على نقل التراث الموروث الذي ارتبط بالأرض والشجر، إلى الأجيال الأخرى، حيث أنّه لدى كل إمرأة أو فتاة فلسطينيّة ثوباً مطرزاً أو شالاً مميزاً تحتفظ به للمناسبات المهمّة… فالجهود مستمرة ولن تتوقف ليحتوي كل منزل فلسطيني على الأقل قطعة تُعبّر عن الهويّة الفلسطينيّة، من ثياب أو مرايا أو حقائب وغيرها من القطع التي تحكي عن فلسطين كما عرفها الأجداد والآباء والأحفاد.
المصدر: الوفاق