الخبز، الحب، والخياطة… حكاية حضور النساء في الأربعين

في خضم زحمة الدنيا وضجيجها وحين ناداني الصوت والصورة والعمل الصحفي، كنت – بلساننا نحن الصحفيين – على موعد مع مهمة ميدانية. لكن هذه المرة، كانت الوجهة مختلفة؛ مكان يفوح منه عبق الحب والخدمة والتفاني في كل زاوية. الوجهة: موكب "الشهداء بلا رؤوس"، حيث الأعلام المرفوعة والمواقد المشتعلة تبشر بخدمة خالصة لزوار الحسين عليه السلام.

لأرى هذا العزم، احتضنت الطريق وسرت في درب كانت حرارة اللحظات فيه تسبق الدقائق. وحين وصلت إلى الوجهة، خُيّل إليّ أن الزمن قد توقّف عن الحركة.  هنا، في محيط قرية مهدي آباد، وتحت وهج الشمس الحاد، كانت تجري خدمة من جنس الحب؛ خدمة يترك الإخلاص والعشق أثره في كل لحظة وكل نظرة. 

نظرة إلى الموكب؛ مكان للعشق

هنا، في موكب “الشهداء بلا رؤوس”، كل شيء مرتبط بخيط الحب؛ الأنفاس، الأذكار، التوسلات، وحتى الضحكات والدموع، جميعها تحمل سراً ولوناً وعبيراً من العشق. هذا الموكب ليس مجرد مكان لخدمة زوار الحسين عليه السلام، بل هو ساحة لتجسيد الحب والإيثار.

كانت عيناي مشدودتين إلى أيدٍ تصب الشاي، وإلى فتيان يندفعون بحماس لا يعرف التعب في سبيل الخدمة، وإلى رجال ونساء وكأنهم جاؤوا بكل أرواحهم ليخدموا زوار الحسين عليه السلام. كل زاوية من هذا الموكب تحكي قصة عشق، قصة يتكرر فيها على ألسنة الخدام مراراً: “من نحن لنفعل شيئاً؟ إنها عناية المولى نفسه.”

حكاية الخبز والحب وخدام من طينة الإيثار

بين الخدام، وقعت عيني على امرأة شابة ترتدي عباءة بسيطة ويديها متعبتان وهي تخبز الخبز. كانت تقول بعينين دامعتين: “عسى الله أن يكتبها لكم، فنحن نزور نيابة عنكم.” جاءت لتجد في هذه الخدمة سكينتها، ولتودع حاجاتها بين يدي سيدها.

في زاوية أخرى، كان مصطفى، شاب من ذوي الهمم، بساقين اصطناعيتين ويدين ترتجفان، لكنه بهمّة عالية، يخدم الزوار. ورغم أن ساقيه لا تقويان على المشي، إلا أنه بخطوات من حب لا ينتهي وقلب مفعم بالشوق الحسيني، مضى في هذا الطريق. كانت خدمة مصطفى خلاصة الحب للحسين، حب تجلّى في خدمته الخالصة لزواره.

فتيات الخياطة وغرز الجنة

وسط الموكب، فتيات بخيوط وإبر، يصلحن ملابس الزوار كما لو كانت أقمشة حرير. يقطعن آخر غرزة بأسنانهن ثم يضعن القطعة على قلوبهن، وكأن هذه الملابس عهد عشق يُقدَّم لزوار بين الحرمين. 

من أطفال المشاية إلى صناعة الذاكرة للمستقبل

في زاوية من الموكب، أُقيم جناح للأطفال، حيث كان يتم تعليمهم قصة عاشوراء من خلال الرسم والقصص والألعاب. وكانت تُقدَّم لهم هدايا عبارة عن حقائب تضم كتباً وأدوات مدرسية وأعمالاً يدوية تحمل اسم السيدة رقية عليها السلام، لتبقى ذكرى من هذا الطريق المفعم بالحب في ذاكرة الأطفال.

خدام من قلب الناس

كان موكب “الشهداء بلا رؤوس” يُدار بخدام من قلب الناس؛ رجال في منتصف العمر، بأيدٍ متشققة من العمل وشَعرٍ أشيب، يخدمون الزوار ليلاً ونهاراً. لكل واحد منهم نذر خاص، من نذر الخبز والبخور إلى نذر تجهيز الموكب، يعبّرون به عن حبهم للإمام الحسين عليه السلام. قال أحد هؤلاء الخدام: “كل حياتنا نذر للإمام الحسين، ونسأل الله القبول.”

مجرة من الحب

موكب “الشهداء بلا رؤوس” ليس مجرد مكان للخدمة، بل هو مجرة من الحب والوفاء. من خدام قطعوا هذا الدرب منذ سنوات طويلة، إلى فتيان يخوضون أول تجربة خدمة لهم هنا، جميعهم اجتمعوا على حب الحسين عليه السلام.

هذا الموكب، بما فيه من أجنحة للإسعافات الأولية، جناح للأطفال، جناح ثقافي، محطة صلوات ومكان لإيواء الزوار، هو جنة صغيرة على الأرض؛ جنة يتردّد في كل زاوية منها اسم الحسين عليه السلام.

روايتي عن الحب

أما أنا، فكنت هناك بقلم بين أصابعي وقلب مفعم بالأثر. رأيت وكتبت ورويت… لعل خدمتي هذه تكون نذراً في حضرة الإمام الحسين عليه السلام؛ نذراً لا أعلم إن كان سيُقبل أم لا، لكني كتبته على أمل القبول، ومن أجل حب الحسين. إن سحر اسم الحسين عليه السلام لا يعرف حدوداً، ويجذب القلوب من كل مكان في العالم.

تعریب خاص لـجهان بانو من وكالة أنباء فارس