عدسة المقاومة: كيف تُحوّل السينما الوثائقية في غزة المشاهد إلى فعل صمود وتوثيق للتاريخ

في غزة، لا يُمارس الفن بوصفه ترفًا، بل هو فعل مقاومة، إذ تغدو الأفلام الوثائقية منبرًا لتوثيق الحكاية، في حرب غزة، أصر صُناع الأفلام على قول نحن هنا، نروي ونوثق حرب إبادة جماعية، نحكيها كما تُعاش تمامًا، لا كما يُراد لها أن تُروى، من بين الركام خرجت الكاميرا كأداة ناجية، توثق الألم، وتعطي المكلومين صوتًا ليحكوا المأساة.
السينما الوثائقية في غزة

قال مخرجو الأفلام في غزة ما لم تعجز الكلمات عن وصفه، لم يكن لهم الفيلم الوثائقي والسينما الوثائقية في غزة مجرد عمل فني، بل شهادة حية وموثقة من تحت النار، حملوا مسؤولية السرد في مواجهة المحو، وهنا صار التوثيق بالأفلام مقاومة بحد ذاته، وحفظًا لذاكرة تُقاوم الفناء.

“ألوان تحت السماء”

في “أحلام تحت السماء” أرادت ريما أن تحكي أن الأمل موجود ويبزغ من عز الألم، جسدت خلاله حياة فتاتين الأولى تغني، والثانية رسامة، وكلاهما فقدن الشغف إثر الحرب، لكنهن حاولن استعادته، آية قررت أن تسجل “شعب الخيام” للشاعر محمود درويش، لكن مع فقدان الاستديوهات، صورت المشاهد والأغنية في خيمة وهنا تعبير جلي عن تحول الحال.

أما الشخصية الثانية بالفيلم هي أمل شخصية صامتة تجسد معاناة النزوح وفقدانها لبيتها ومرسمها وشقيقها من خلال لوحاتها الفنية وكتاباتها، ومن هنا خرج فيلم “ألوان تحت السماء” ليكون عمل وثائقي مقاوم، لم يأبه لساعات التصوير الطويلة ولا انعدام المعدات، ولا حتى للغارات الغادرة التي يمكن أن تطال فريق العمل أثناء عملية التصوير حتى خرج للنور. 

المخرجة ريما محمود قررت أن يكون لها صوتًا، فكان فيلم “ألوان تحت السماء” بدايتها في زمن الحرب،ولكن هو ليس الأول سبقه أعمال عديدة من الافلام الوثائقية، كفيلم سيلفي الذي وصل للعالمية، لم يكن اتخاذ هذه الخطوة سهلًا في ظل القصف المتواصل لكن الأمل والرغبة أن يخرج صوت الغزي إلى العلن، كانا أقوى من الخوف،  هكذا جاءت بطلة الفيلم، آية، شاهدة على واقع يُعاش تحت النار، تحمل قصتها لتجسدها في فيلم مصور.

من خلال آية، لا يقدم الفيلم حكاية فردية فحسب، بل يفتح نافذة على تجربة جماعية، فهي حوصرت رفقة عائلتها إلى أن طالت يد قناص إسرائيلي والدها وشقيقها لتعيش الفقد المروع، كانت تغني منذ طفولتها لكن منذ رحيلهم فقدت شغفها في كل شيء. تقول ريما: “تذكرني قصة آية بطلة الفيلم بقصتي فأنا مثلها استشهد والدي في العام ۲۰۱۴ ولليوم لم أستطع تجاوز ألم الفقد، ومع كل مشهد تجسده البطلة ارتجف، كيف لنا أن تكون قصصنا متشابهة لهذا الحد، يكوينا وجع الغياب هكذا”.

في “أحلام تحت السماء” أرادت ريما أن تحكي أن الأمل موجود ويبزغ من عز الألم، جسدت خلاله حياة فتاتين الأولى تغني، والثانية رسامة، وكلاهما فقدن الشغف إثر الحرب، لكنهن حاولن استعادته، آية قررت أن تسجل “شعب الخيام” للشاعر محمود درويش، لكن مع فقدان الاستديوهات، صورت المشاهد والأغنية في خيمة وهنا تعبير جلي عن تحول الحال.

أما الشخصية الثانية بالفيلم هي أمل شخصية صامتة تجسد معاناة النزوح وفقدانها لبيتها ومرسمها وشقيقها من خلال لوحاتها الفنية وكتاباتها، ومن هنا خرج فيلم “ألوان تحت السماء” ليكون عمل وثائقي مقاوم، لم يأبه لساعات التصوير الطويلة ولا انعدام المعدات، ولا حتى للغارات الغادرة التي يمكن أن تطال فريق العمل أثناء عملية التصوير حتى خرج للنور. كان الفيلم بمثابة علاج نفسي لبطلة الفيلم آية يساعدها على تجاوز الألم قليلًا، وهذا ما أكدته المخرجة ريما التي ختمت حديثها: “ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا”.

“ماريا”

تتعدّد المواقف المؤثرة في غزة، إلا أن بعضها يترك أثرًا بالغًا في الذاكرة، من أكثر اللحظات تأثيرًا بالنسبة لهبة والفريق كانت لحظة ولادة ماريا، إذ كانوا أول من رآها، ورافقوها إلى والدتها، في مشهد تختلط فيه الدهشة بالخوف والفرح المؤجل، أما اللحظة الثانية، فكانت عند تصوير “سبوع” ماريا، الذي أُقيم في المقبرة التي نزحت إليها العائلة.

غير أن المشهد الذي أبكى الجميع تمثّل في لقاء ماريا بعائلة والدها للمرة الأولى، عائلة لم تشهد مراحل نموها كجنين، ولم تعش فرحة ولادتها، بعدما حاصرتهم الحرب في شمال غزة،  جاء اللقاء محملًا بالغياب والفقد، ومشبعًا بدموع الفرح المتأخر.

أما المخرجة هبة كريزم، لم تكف قبل الحرب عن دراسة عالم صناعة الأفلام الوثائقية، فكان نتاج ذلك إخراج عدة أفلام، حتى كان آخرها “ماريا” الذي كانت فكرته نتاج الظروف الإنسانية الصعبة التى يعيشها أهالي غزة، فتبلورت الفكرة من المخرج عبد الحكيم أبو ذقن وتم تشكيل أعضاء فريق  لتكون توثيق تجربة حياتية جماعية للكثير من النساء.

تقول هبة لبنفسج: “فكرت أنا وفريقي بتناول حياة طفلة صغيرة تولد فى خيمة نزوح، وتفتقر لأبسط حقوقها فى الحياة بأن تولد في ظروف ملائمة طبيعية، فقررنا تسليط الضوء على هذه السيدة الحامل وما تعانيه هي وجنينها، فأُسندت مهمة البحث عن شخصية مناسبة لي”.

تكمل: “كانت رحلة البحث عن الشخصية صعبة فى ظل ظروف النزوح، لكنني واصلت البحث حتى وجدت ما أريد، فالأم كانت رمزًا بالفيلم يدلل على صمود المرأة الغزية، والأب يحاول البحث عن النجاة له وعائلته وتوفير أماكن آمنة لحماية أطفاله وولادة طفلته فى ظروف جيدة، ناهيك أنه يعمل مراسل صحفي يعرض حياته للخطر فى تغطية الأحداث الميدانية”.

لم يكن تصوير الفيلم سهلًا أبدًا، إذ كان المصور أحمد السالمي يفتقد لبعض معدات التصوير الغير متوفرة في غزة، عدا عن أن ظروف العائلة لم تكن تسمح بالتصوير أحيانًا بسبب النزوح، ولم يكن هنالك أماكن مناسبة للتصوير إضافة إلى عدم توفر تمويل للفيلم يغطي مصروفات التنقل وغيرها.

“أن نقول أن الحياة فى غزة مستمرة برغم النزوح والدمار الذي لحق بالقطاع، أردنا القول أن ولادة الطفلة حتى لو فى الخيمة كان بارقة أمل تهز العالم أجمع لتثبت أن الشعب الفلسطينيى قادر على إعادة الحياة مرة أخرى مهما كانت الظروف”.

تتعدّد المواقف المؤثرة في غزة، إلا أن بعضها يترك أثرًا بالغًا في الذاكرة، من أكثر اللحظات تأثيرًا بالنسبة لهبة والفريق كانت لحظة ولادة ماريا، إذ كانوا أول من رآها، ورافقوها إلى والدتها، في مشهد تختلط فيه الدهشة بالخوف والفرح المؤجل، أما اللحظة الثانية، فكانت عند تصوير “سبوع” ماريا، الذي أُقيم في المقبرة التي نزحت إليها العائلة، لتتكشف مفارقة قاسية بين الموت والحياة في المكان ذاته.

غير أن المشهد الذي أبكى الجميع تمثّل في لقاء ماريا بعائلة والدها للمرة الأولى، عائلة لم تشهد مراحل نموها كجنين، ولم تعش فرحة ولادتها، بعدما حاصرتهم الحرب في شمال غزة،  جاء اللقاء محملًا بالغياب والفقد، ومشبعًا بدموع الفرح المتأخر.

ماذا أردتم القول من خلال فكرة الفيلم؟ تجيب هبة: “أن نقول أن الحياة فى غزة مستمرة برغم النزوح والدمار الذي لحق بالقطاع، أردنا القول أن ولادة الطفلة حتى لو فى الخيمة كان بارقة أمل تهز العالم أجمع لتثبت أن الشعب الفلسطينيى قادر على إعادة الحياة مرة أخرى مهما كانت الظروف”.

كان لا بد للفيلم أن يخرج للنور، ويرى العالم أجمع كيف تلد النساء الأطفال في غزة؟ كيف تُدمج الفرحة مع الحزن؟ فقرر الفريق بقيادة المخرج عبد الحكيم أبو ذقن أن يتقدم لمهرجان عالمي ليعرض “ماريا” به، ليفوز بالمركز الأول في مهرجان آفاق السينمائي الدولي كأفضل فيلم وثائقي قصير.

 “الفتاة المعجزة”

توضح مرام أن راما تعرضت وهي في الثالثة من عمرها لحريق من الدرجة الثالثة التهم جسدها بالكامل، وذلك أثناء وجود عائلتها في السعودية، خضعت للعلاج في أحد المستشفيات هناك، وعاشت منذ طفولتها آلامًا أكبر من عمرها، خلال العلاج.

 كان الأطباء يجرون عمليات ترقيع جلد، يأخذون الجلد من قدميها ليزرعوه في وجهها، نجت الصغيرة وأطلق عليها الأطباء لقب “معجزة مستشفى الشميسي”، ومن هنا جاء اسم فيلم “الفتاة المعجزة”.

في تفاصيل حكاية راما، تحكي مرام إنها كانت تضطر لارتداء قناع على وجهها طوال الوقت، كانت تبكي لأمها، وأمها تبكي لأجلها، لم تكن تخلع القبعة عن رأسها بسبب احتراق فروة رأسها وحساسية جلدها من الشمس، فتتعرض للتنمر، كبرت راما، وعادت عائلتها إلى غزة، درست التخصص الذي تحبه، حتى أصبحت تعمل بشكل حر (فريلانسر)، لكن الحرب جاءت لتقف عائقًا جديدًا أمام أحلامها.

في المقابل، أردات مرام عليان أن تضع لها بصمة في عالم صناعة الأفلام الوثائقية، فهي تؤمن أن الحكايات التي تستحق أن تُروى يجب أن تبزغ ليشاهدها العالم، فلنحكي إن خلف كل وجه متعب في غزة حكاية إنسانية، وأننا لسنا رقمًا ولا صورًا في نشرات الأخبار، فكان “الفتاة المعجزة” المقترحة من فريقها فكرة لتجسيد قصة راما الفتاة التي واجهت الألم منذ طفولتها.

توضح مرام أن راما تعرضت وهي في الثالثة من عمرها لحريق من الدرجة الثالثة التهم جسدها بالكامل، وذلك أثناء وجود عائلتها في السعودية، خضعت للعلاج في أحد المستشفيات هناك، وعاشت منذ طفولتها آلامًا أكبر من عمرها، خلال العلاج، كان الأطباء يجرون عمليات ترقيع جلد، يأخذون الجلد من قدميها ليزرعوه في وجهها، نجت الصغيرة وأطلق عليها الأطباء لقب “معجزة مستشفى الشميسي”، ومن هنا جاء اسم فيلم “الفتاة المعجزة”.

في تفاصيل حكاية راما، تحكي مرام إنها كانت تضطر لارتداء قناع على وجهها طوال الوقت، كانت تبكي لأمها، وأمها تبكي لأجلها، لم تكن تخلع القبعة عن رأسها بسبب احتراق فروة رأسها وحساسية جلدها من الشمس، فتتعرض للتنمر، كبرت راما، وعادت عائلتها إلى غزة، درست التخصص الذي تحبه، حتى أصبحت تعمل بشكل حر (فريلانسر)، لكن الحرب جاءت لتقف عائقًا جديدًا أمام أحلامها.

“خلال الفيلم، كان صوت راما نفسه يرتجف وهي تسترجع ذكريات طفولتها، وذكريات التنمر التي تعرضت لها بسبب شكلها، في تلك اللحظات، لم تكن تتحدث فقط، بل كانت تعيش الألم من جديد أمام الكاميرا، كنت أشفق عليها ونحن نصور لقطات على البحر وهي تتألم من الشمس ورغم ذلك كانت تواصل العمل”.

وكحال فتيات غزة، عاشت راما كل مآسي الحرب، رغمًا عن خصوصية وضعها الصحي والنفسي، تتعرض لأشعة الشمس الحارقة مع أنه تشكل خطرًا على بشرتها، تمشي مسافات للوصول للإنترنت لتدرس وتعمل، تجلس للطبخ أمام النار، تحمل جالونات الماء رغم أنها لا تستطع إغلاق يدها المحروقة. تقول مرام: “خلال الفيلم، كان صوت راما نفسه يرتجف وهي تسترجع ذكريات طفولتها، وذكريات التنمر التي تعرضت لها بسبب شكلها، في تلك اللحظات، لم تكن تتحدث فقط، بل كانت تعيش الألم من جديد أمام الكاميرا، كنت أشفق عليها ونحن نصور لقطات على البحر وهي تتألم من الشمس ورغم ذلك كانت تواصل العمل”.

وتضيف: “ولا يمكنني أن أنسى مشاهد الاستهدافات التي كانت أمام عيني خلال فترة التصوير، والأشلاء التي كانت تتطاير أمامنا، كنت أمشي وأنا أبكي وخائفة، لكنني أُكمل طريقي لأواصل تصوير الفيلم”. كان فريق مرام مكون من ۴ أشخاص، لا يمتلكون معدات تصوير احترافية، كل ما يملكونه هواتفهم الشخصية، حتى أنها قامت بمونتاج الفيلم بالكامل على هاتفها، عدا عن عائق عدم وجود كهرباء، فكانوا يسيرون لمسافات طويلة جدًا فقط لشحن هواتفنا، وأيضًا للبحث عن نقطة إنترنت لتحرير مشاهد الفيلم. 

 حصلت مرام وفريقها على جائزة Judges’ Choice – Grand Prize Winner في مهرجان ConnectHER Film Festival، وكانت هذه جائزة المركز الأول للمهرجان، تقول: “كان شعور الفوز مؤثرًا جدًا، في ذلك اليوم كانت أصوات الانفجارات لا تتوقف، كنت على تواصل مع صديقة لي كانت حاضرة في المهرجان في مدينة أوستن، وأكثر ما لمس قلبي هو هتاف الجمهور “Free Palestine”. في تلك اللحظة شعرت أن الحلم والهدف الذي حملته بداخلي منذ طفولتي قد تحقق”.

بنفسج