الشاعرة سمية وادي: قصيدتي وثيقة حرب ومرثية وطن

على رصيف الكلمات وفي أزقة غزة التي تضيق بالحياة وتفيض بالأمل، وفي الوقت الذي لا يجد فيه أغلبنا ما يصف فيه ما يحدث من حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي في غزة، تراها تقف على الجهة المقابلة، تتقن حرفة الوصف، وتريك المشاهد حية في كلماتها وأشعارها، فهي الشاعرة التي تغنت بالوطن أسيرًا مكلومًا، ورأته في مقامات الشعر أبيًا لا تعلو سماءه إلا راية الحرية. سمية وادي، شاعرة من فلسطين، من جراحها النازفة في غزة، تستضيفها بنفسج في هذا الحوار الخاص بعد ما يزيد عن عام وشهرين من حرب الإبادة الجماعية، لتحدثنا عن البدايات، الوطن، الأمومة، وأمنيات ما بعد الحرب.

ثلاثة جراح تحكي قصتي و أمومتي

بدأنا اللقاء بسؤال عن سمية الإنسانة، قبل أن تكون شاعرة، فوصفت نفسها قائلة: “أقف في منتصف الشارع الضيق الذي منحتنا إياه الحياة في غزة، أفتش في جروحي الثلاثة: جرح اللجوء، وجرح الإنسان الشاب الغزّي المعافر في وطنه، وجرح الشعر الذي يختزل كل الحكاية. أبحث عن أملٍ نصنعه بأظافرنا بعد أن حرمتنا سنوات العذاب كل وسائل النجاة والحرية.”

كانت هذه الكلمات مدخلًا لحديثنا عن الشاعرة سمية عصام وادي مواليد ۱۹۹۲، و هي لاجئة من قرية بيت دراس، درست اللغة العربية في الجامعة الإسلامية، بالإضافة لدراسة الماجستير في الأدب والنقد بامتياز مع الشرف، وحاليًا طالبة دكتوراه،  لكن حالت ظروف الحرب في غزة بينها وبين سفرها لمناقشة رسالة الدكتوراة في السودان.

 عن طفولة شكلتها انتفاضاتٌ متتالية، وحروبٌ قاسية، وحصارٌ خانق، تقول سمية:”منذ طفولتي والمشاهد تتوالى، انتفاضةٌ وحروبٌ وحصارٌ تدفقوا جميعًا في صدري، مفجّرين بركانًا من الكلمات والصوت الذي لا يعرف لنفسه طريقًا غير الحق والنضال.”

سمية أم لطفلين جميلين راسيل ۷ سنوات وإسماعيل ۳ سنوات، تقول حول يومياتها في الحرب: “اختلفت تفاصيل حياتي وأعبائي كأم خلال هذه الحرب، وكغيري من النساء والأمهات في غزة، تقع على عاتقي مسؤوليات كبيرة في أوقات النزوح، للحفاظ على حياة أبنائي وتأمين مقومات الحياة لهم، أقصد مقومات البقاء على قيد الحياة، من مأوى ومأكل وشرب، لذا أرى أن أعظم إنجازاتي هذا العام كانت في أمومتي التي مارستها بكل ما أوتيت من قوة، وكنتُ أسعد بأي أمر بسيط أستطيع تحقيقه ويسعد أبنائي، كتوفير أصناف من الطعام يحبونها، مؤخرًا عكفتُ على تعليم ابنتي وتدرسيها بعد انقطاعها عن التعليم لأكثر من عام كامل” 

الشاعرة سمية وادي.jpg

سمية وادي: سأكون صوتًا لكل ما لايُقال

سمية وادي شاعرة من غزة.jpg

وعن النشأة الفكرية والتوليفة التكوينية التي جعلت من وادي شاعرة في عمر مُبكر، قالت ضيفتنا: ” كفلسطينية لاجئة في غزة، كان حضور الوطن مكثفًا في وجداني، فإضافةً لما ذكرت من واقعٍ أليم مليء بمشاهد الأطفال المنكوبين والشهداء الباحثين عن الحرية، فإن حبي للغة العربية وقراءتي المتنوعة بين القصص والشعر جعلت هذه التوليفة مني كاتبةً للشعر في مراحل الطفولة  ومع المداومة، نمت الموهبة وصارت جزءًا من هويتي الثقافية والفكرية والوطنية.”

لكن الطريق لم يكن مفروشًا بالورد، سمية لم تخفِ مرورها بلحظات أرادت فيها التوقف، حين قالت: “لا أخفي أنني شعرت أحيانًا باليأس، ولكن كنت أتغلب على هذه اللحظات بتذكّر هدفي: أن أكون صوتًا لكل ما لا يُقال، وأن أجعل من قصائدي نافذة يطلّ منها العالم على وجع غزة وأحلامها.”

تحدثت الشاعرة سمية وادي عن تجربتها مع دواوينها الشعرية، التي حملت بصمتها الإنسانية والوطنية. تقول: “ديواني الأول كان بعنوان (لو يظمأ السفر) عام ۲۰۱۳م، وكان تعبيرًا عن شوقٍ متعطش للحرية والكرامة، أما ديواني الثاني (وجوهٌ للأقنعة)، فقد طُبع نهاية عام ۲۰۲۳ خلال الحرب في المغرب، وما زلت حتى الآن لم أحصل على نسخةٍ منه ولم يُعقد له حفل إشهار.”

وعن القضايا التي تتناولها في شعرها، أوضحت سمية أن الإلهام الأكبر لقصائدها ينبع من المعاناة اليومية للفلسطينيين، قائلة:
“من الطبيعي أن تكون قضايا الشاعر الفلسطيني مأخوذة من واقعه الصعب، قبل هذه الحرب، كانت قصائدي أكثر تنوعًا وعمقًا، تتحدث عن الذات والروح وهموم خاصة، لكن بعد الحرب لم أستطع تجاهل الإبادة والظلم غير المسبوق الذي عشناه، باتت قصائدي مرآة للأهوال اليومية.”

ولكن كنتُ قد وثّقت بكلماتي مشهد طفلٍ  شجاعٍ ركض داخل الخيمة المحروقة لينقذ أمه المصابة التي لم تستطع اللحاق به، فوجدوا الطفل وأمّه متفحّمين ومتعانقين معًا عناقهما الأخير:
هكذا،،
يبتدي الشعورُ
هكذا ترفُّ الحكايا،،
فوق خيمةٍ عانقتها الزهورُ
هكذا تولَدُ المعجزاتُ
وحدها 
في يدي صبيِّ
أمّه في الحريق تناديه،،
ألا يجيء،،
وهو هاربٌ،،، نحوها من كلِّ شيِّ!
عدتَ للرحمِ يا حبيبي،،
والرحمُ عادت،،
للتراب الموشّى بالدمّ واللحمّ الزكيِّ
عدتما معًا  لحضنِ السما الأبديِّ!
أي معنًى تركتَه يا صغيري!!؟
أي حبٍّ  ووفاءٍ!؟ أي ضعفٍ وجنونٍ 
أيُّ حدسٍ ولطفٍ خفيِّ!
كيف قرّرت لحظة الانعتاقِ
مثل هذا القرار الذكيّ!؟

كأنما النارُ صارت بردَه وسلاما
كأن شيئًا في الحريق ناداه “ماما”،،!!
ضمّ راحتيه في يديها وذاب معها وناما!
والمسا المضيءُ بالنار صار يعوي،،
صار يهذي،،
لا حكايا بعد جفنيك،،
لا خيولٌ تُسابق الريح لهفةً،، 
كسّر الحبّ مصباحه،،
وبكى كلَّ حضنٍ يراه..
حدادًا عليك!!!
قصائدي وثيقة حرب ومرثية وطن

سمية وادي .jpg

أكدت سمية أن الشعر أداة قادرة على توثيق معاناة الفلسطينيين ونقلها للعالم. تقول: “كان الشعر في البداية جزءًا من ترف الروح وتسلية القلب، لكنه ظل مرتبطًا بقضايا فلسطين من نكبةٍ ونكسةٍ وحصارٍ وأسرى، لكن خلال العام والنصف الأخيرين، تغيّر كل شيء، باتت قصائدي أشبه بمرثية للوطن والروح، تعكس انقطاع قلوبنا عن العالم.”

لكن الحرب كلّفتنا الكثير حتى القدرة على التعبير، وقد حرمتنا من التحليق في آفاق اللغة وفضاءات المجاز، وصار الكلام يصنع من لحظات الموت والتعبيرات الأقوى هي التي تؤخذ من أفواه المرضى والجوعى والمكلومين. ولكن سرعان ما يعود بداخلي شعور الانتماء لوظيفتي في الحياة، وهي أن أوثّق لحظات الموت والبحث عن مفرداتٍ تليق بالمآسي المتناثرة، وقد ولدت مفردات وتعبيرات وبلاغات جديدة خلال النزوح والبحث عن النجاة.

وعن تأثير الحرب الأخيرة على كتاباتها، تحدثت سمية عن التحديات التي واجهتها أثناء النزوح المتكرر والصراع اليومي لتأمين الاحتياجات الأساسية. تقول: “خلال الحرب، واجهت لحظات حرمتني الكتابة تمامًا؛ من انقطاع الإنترنت وصعوبة شحن الجوال إلى البحث عن ماءٍ وطعامٍ ونزوحٍ مستمر، كانت هذه التفاصيل تثقل كاهلي وتُبعدني عن صفاء الشعر، ومع ذلك، لم تستطع الحرب أن تطفئ شرارة الكتابة بداخلي، فالكتابة، مهما كان الواقع قاسيًا، تبقى واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، إنها وسيلة لتوثيق المآسي ومواساة المكلومين، ولعلها تكون أملًا يُبقي صوتنا حيًا في وجه الإبادة.”

عندما اشتدت الحرب، واجهت سمية لحظة فارقة أثناء نزوحها مع عائلتها تحت القصف، تلك اللحظة التي كانت أشبه بعبور الموت، حيث التصقت الصلوات بالأنفاس المرتجفة، وأصبح النجاة أملًا مؤقتًا، عبرت عن هذه اللحظة في شعرها بألم وصدق، لتُظهر للعالم كيف يصبح الإنسان أقرب إلى ذاته وإيمانه عندما يكون الموت على بعد خطوة.

حلم مسابقة “أمير الشعراء” و طموح تجاوز الحدود

تقول سمية “كان لي مشاركات محلية وعربية في عدة محافل، منها فعاليات أدبية في مصر وفي دولة المغرب، وقد سافرت لمسابقة أمير الشعراء قبل ذلك عام ۲۰۲۰، وتأهلت للحلقات المباشرة، وتم إغلاق المعبر وقتها ولم أتمكن من مواصلة مشواري”

رغم القهر، استمرت سمية في الكتابة وحظيت كلماتها بفرصة أن تتجاوز حدود غزة، لتصل إلى منصات عالمية تُنشر فيها قصائدها مترجمة إلى الإنجليزية والسويدية، كان هذا الإنجاز بمثابة نافذة أمل فتحتها المقاومة الثقافية على مصراعيها، كانت كلماتها سفيرة شعبها الذي يناضل من أجل الحياة، طموحها لا يزال كبيرًا، فهي تخطط لكتابة ديوان جديد يوثق الحرب الأخيرة ويُخلّد قصص المقاومة والوجع والأمل.

حلم سمية بالمشاركة في مسابقة “أمير الشعراء” كان خطوة كبيرة نحو إيصال صوتها إلى جمهور أوسع، وسط الدمار، أرسلت قصيدتها الأولى بشيء من التردد، لكن شجاعتها وموهبتها أهلتاها للمراحل النهائية، ورغم استمرار القصف وانقطاع الإنترنت، أظهرت إصرارًا عجيبًا، متحدية كل العوائق.

للأسف، لم تتمكن سمية من السفر لإكمال مشوارها في المسابقة بسبب إغلاق معبر رفح واستمرار العدوان، شعرت بثقل الخيبة، وكأن الحصار لم يُغلق حدود غزة فقط، بل أغلق أيضًا الأبواب التي كانت تُطل منها على العالم، ومع ذلك، لم تستسلم، بل عادت إلى قلمها لتكتب المزيد من القصائد التي تُعبّر عن واقعها، متيقنة أن الكلمة المقاومة لا تعرف حدودًا ولا قيودًا.

سمية اليوم تجسد صوتًا من أصوات غزة التي تتحدى الصمت العالمي. تؤمن أن كل قصيدة تكتبها هي وثيقة حية تشهد على الجرائم المرتكبة بحق شعبها، ورسالة مفتوحة للعالم: “لا تنسوا غزة”. تواصل كتابة الشعر، وتحلم بمستقبل يحمل الحرية لبلدها، حيث تصبح الكلمات أغنيات أمل بدلًا من صرخات ألم.

المصدر: بنفسج