أمهات صمّ في غزة: هل تفهم الحرب لغة الإشارة؟ دعوات لكسر حاجز الصمت

في قلب الحرب، حيث يعلو دويّ القصف ويغيب أي شكل من أشكال الحوار، لا تنتهي المأساة عند حدود الدمار في غزة، بل تتجدد بأشكال أكثر قسوة. تعيش أمهات وفتيات من ذوات الإعاقة السمعية واقعًا مركّبًا من الألم والعزلة، إذ لا يسمعن صوت الانفجارات، ولا يفهمن نداءات الإخلاء، ولا يصل صوتهن إلى أحد.
الصم

بين النزوح والتشريد وفقدان الأحبة، تواجه هذه الفئة حربًا مضاعفة: حربًا على الجسد، وأخرى على القدرة على التواصل والفهم. بعضهن أمهات في مقتبل العمر، وأخريات أرامل يحملن عبء الأسرة وحدهن، في ظل تهميش مزمن يزداد قسوة خلال الحرب. في هذا التقرير، نسلّط الضوء على ثلاث قصص لنساء من غزة، لكل واحدة منهن وجعها الخاص، لكنهن يشتركن في معركة واحدة: الصمود في عالم لا يسمعهن بينما هم صم.

أمومة بالإشارات وسط الأنقاض

inbound490755933942051329.jpg

لم تكن حنان أبو شهلا تسمع صوت الانفجارات، لكنها كانت تشعر بها وهي تهز جدران المنزل. في لحظة واحدة، تحول البيت إلى ركام، وغاب معها صوت والدتها، المرأة التي كانت تترجم لها العالم بلغة الإشارة، رغم أنها لم تسمع صوتها يومًا واحدًا. وُلدت حنان بإعاقة سمعية كاملة، ولم تعرف العالم إلا من خلال يدي أمها وعينيها. تعيش في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، ولم تتلقَّ تعليمًا رسميًا بسبب غياب المدارس المتخصصة بلغة الإشارة، خاصة في ظل الحرب. كانت والدتها جسرها الوحيد لفهم ما يجري حولها.

عندما قُصف المنزل وفقدت والدتها، وجدت حنان نفسها فجأة مسؤولة عن أشقائها. كتبت لخالتها على ورقة: “إذا صار قصف قريب منا خبروني، أنا مش سامعة شي وخايفة على إخوتي صم”. تعلمت لغة الإشارة عبر مقاطع فيديو على “يوتيوب” باستخدام هاتفها، وبدأت تعليم أشقائها أساسيات التواصل. كانت تحاول بناء لغة مشتركة بالإيماءات، لتعويض غياب الصوت. في دفتر يومياتها كتبت: “أنا ما بسمع صوت القصف والانفجارات، بسمعهم بالعيون مش بالأذن”. 

رسائل لا تصل إلا بالقلب

inbound3481224489835890196.jpg

في كل مساء، تجلس عائشة اللحام لتكتب رسائل ليست مجرد كلمات، بل محاولات مستمرة للحفاظ على أسرة مهددة بالغياب. عائشة، ثلاثينية من جنوب قطاع غزة، تعيش مع طفلها البالغ من العمر ثلاث سنوات ونصف، بينما لم ترَ زوجها منذ عامين.

يعمل زوجها في الداخل المحتل، ولم يتمكن من العودة بسبب إغلاق المعابر والإجراءات الإسرائيلية. تعاني عائشة ضعفًا شديدًا في السمع، وتستخدم سماعات طبية بالكاد تساعدها على السماع. لا تستطيع التحدث مع زوجها عبر الهاتف، فتلجأ إلى الرسائل النصية عبر الإنترنت، وتقول: “بكتب لزوجي كل شي… شو بصير معنا، وكيف بنعيش”. أرسلت له ذات مرة رسمة لطفلهما، وكتبت بجانبها: “نحن نشتاق إليك كل يوم”.

حين يصبح الصمت مصدر قوة

inbound2910295680970423294.jpg

علا زعرب، ۳۵ عامًا، تعيش في مخيم للاجئين بعد أن دُمر منزلها، وفقدت زوجها في الحرب. تعاني إعاقة سمعية منذ الولادة، وهي اليوم أرملة وأم لثلاثة أطفال. رغم قسوة التجربة، تحولت علا إلى مصدر دعم نفسي للنساء في المخيم. تستخدم مهاراتها في الحياكة لتعليم نساء أخريات صناعة الملابس، وتقول بلغة الإشارة: “أنا ما بقدر أسمعهم، بس بقدر أفهم فورًا شو بدهم يحكوا”.

في إحدى الليالي، ساعدت امرأة فقدت زوجها وأطفالها على تجاوز نوبة انهيار حاد، فقط من خلال احتضانها والبكاء معها. إن الجانب المضيء في قصة علا هو قدرتها على تحويل الألم الشخصي إلى طاقة جماعية، رغم أنها هي نفسها بحاجة إلى من يسمعها ويفهمها.

وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد الأشخاص ذوي الإعاقة وصم في فلسطين نحو ۱۱۵ ألف شخص حتى أكتوبر/تشرين الأول ۲۰۲۳، منهم ۵۷ ألفًا في قطاع غزة، أي ما يقارب ۳% من السكان، وتشير بعض الدراسات إلى أن النساء يشكّلن نحو ۴۰% من هذه الفئة.

وقد تفاقمت إعاقات الكثيرين بسبب الحرب، فيما حُرم آخرون من الوصول إلى الخدمات الصحية نتيجة النزوح المستمر. ومع استمرار العدوان، أصبح التواصل ذاته معركة يومية في حياة ذوي الإعاقة السمعية، وصار الخوف جزءًا ثابتًا من تفاصيل حياتهم.

قصص حنان، وعائشة، وعلا ليست استثناءات، بل نماذج حقيقية لنساء لم يسمعن صوت القصف أو أوامر الإخلاء، لكنهن عشن الحرب بكل تفاصيلها، بكل صرخة لم تُسمع، وبكل وجع لا يزال حيًا. إن تسليط الضوء على هذه القصص ليس ترفًا إنسانيًا، بل واجب أخلاقي، ودعوة لإعادة النظر في سياسات الرعاية والتعليم والحماية، على أساس العدالة لا الشفقة، والاعتراف لا التهميش.

بنفسج