اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
ومع انتشار المدارس العالمية أو “الدولية” بتكاليفها الباهظة، تحول الأمر إلى ما يشبه سباقا اجتماعيا يتداخل فيه الحرص على تعليم أفضل مع هوس “البرستيج”.
ويبقى السؤال: أتمنح هذه المدارس أبناءنا فعلا تفوقا نوعيا ومهارات أرقى، أم إن الأمر لا يعدو كونه لافتة براقة ترضي الأهل أكثر مما تنفع الطفل؟
بعض الأسر تتحمل ديونا أو تقتطع من احتياجاتها الأساسية فقط كي لا يُقال إن أبناءها خارج “النظام العالمي”
ينظر كثير من الآباء إلى المدارس العالمية بوصفها مفتاحا لمستقبل مشرق؛ فالمناهج الأجنبية تعني في أذهانهم فرصا جامعية أوسع ووظائف أفضل.
لكن الواقع المالي ليس سهلا؛ إذ قد تعادل الأقساط الدراسية دخل الأسرة السنوي، لتصبح العملية التعليمية مشروعا مرهقا اقتصاديا ونفسيا.
بعض الأسر تتحمل ديونا أو تقتطع من احتياجاتها الأساسية فقط كي لا يُقال إن أبناءها خارج “النظام العالمي”.
أتذكر حديث أحد أصدقائي حين بدأ يفكر في إدخال ابنه إلى مدرسة عالمية.. كان متحمسا للفكرة إلى أقصى حد، لكنه عندما جلس أمام الأرقام وجد أن الأقساط الدراسية تتجاوز دخله السنوي.
قال لي حينها: “أشعر أنني في سباق اجتماعي أكثر من كوني في قرار تربوي!” وكان يسأل نفسه: أهذه التكاليف الباهظة ستمنح ابنه تعليما حقيقيا، أم أنها مجرد لافتة براقة نرضي بها المجتمع؟
المسألة ليست مجرد لغة، بل هوية وانتماء، وقدرة على التفكير بلغتين دون أن يطغى تعلم إحداهما على حساب الأخرى
يرى كثير من الأهالي أن إتقان الإنجليزية هو العلامة الفارقة التي تميز أبناء المدارس العالمية. ولا شك أن اللغة أداة مهمة، فهي جسر للمعرفة والانفتاح، لكن اختزال التعليم كله في تعلم الإنجليزية يجعلها غاية بحد ذاتها.
يحكي لي صديق آخر أنه شعر بالفخر عندما بدأ ابنه الصغير يردد كلمات إنجليزية بعد أسابيع قليلة من دخوله المدرسة العالمية؛ لكنه بعد فترة لاحظ أن ابنه صار أقل طلاقة في التعبير عن نفسه بالعربية. قال لي: “أدركت أن تعلم الإنجليزية وسيلة وليس غاية، وأن الطفل إذا فقد القدرة على التعبير بلغته الأم قد لا يكتسب مهارات التفكير الناقد بسهولة”.
فالمسألة ليست مجرد لغة، بل هوية وانتماء، وقدرة على التفكير بلغتين دون أن يطغى تعلم إحداهما على حساب الأخرى.
الاعتقاد السائد هو أن المناهج الأجنبية وحدها تصنع عقلية ناقدة ومبدعة، لكن الحقيقة أن هذه المهارات لا ترتبط بنوع المنهج فقط، بل بأسلوب التدريس وطريقة التعامل مع الطفل.
قد يكون المعلم في مدرسة “عادية” أكثر قدرة على تحفيز طلابه للنقاش وطرح الأسئلة من معلم في مدرسة عالمية يكرر المحتوى بلا تفاعل.
التعليم الحديث لا يقوم على التلقين، بل على التدريب على حل المشكلات وفتح باب النقاش.
البيئة التي تسمح بالخطأ والتجربة والحوار -سواء في البيت أو المدرسة- هي التي تصنع المفكرين الصغار، أما البيئة التي تقمع السؤال أو تركز على الحفظ دون فهم، فهي -مهما كانت لافتتها عالمية- لن تثمر عقلية ناقدة.
يبقى السؤال الجوهري: ما الذي نريده حقا من تعليم أبنائنا؟ أنبحث عن شهادة أجنبية نرفعها في وجه المجتمع، أم نريد عقولا ناقدة قادرة على التفكير والإبداع وصنع المستقبل؟
لا يمكن إنكار أن بعض الأهالي يلجؤون إلى المدارس العالمية بدافع المكانة الاجتماعية؛ فالمدرسة أصبحت رمزا يرفع أو يخفض قيمة العائلة في نظر المجتمع. هنا يتداخل التعليم مع “المظاهر”، وتصبح القرارات أقرب إلى سباق طبقي أكثر من كونها اختيارا تربويا.
أحد الآباء قال لي بصراحة: “لست مقتنعا أن ابني يتعلم أفضل في هذه المدرسة، لكن لا أريد أن يُقال إنني قصرت معه”. هذه العبارة تلخص جانبا من هوس الأهالي، حيث يصبح القلق من كلام المجتمع أقوى من التفكير الواقعي في مصلحة الطفل.
الجواب لا يكمن في لافتة المدرسة أو لغة المنهج، بل في البيئة التي نصنعها حول الطفل، في المدرسة كما في البيت.
التعليم الحقيقي ليس في القاعات المكلفة أو الشهادات الأجنبية، بل في قدرة الطفل على أن يسأل، ويفكر، ويبدع، ويصنع طريقه بثقة.
الجزيرة