“بدنا ندفن أولادنا”: عن موسم العودة إلى الشمال

منذ اليوم الأول في الهدنة في غزة فتح الغزيون بيوت العزاء المؤجلة، سكبوا على الجرح آيات الله لتهدهد قلوبهم المكلومة، وقفوا بثبات يرددون: "اللهم الصبر يا الله". ركضت العوائل إلى محافظتي الشمال ورفح، يبحث كل منهم عن حبيبه، فهذا يصرخ في معسكرجباليا "وين ابني يا عالم.. لو لقيتوا رح أحليكم".

 وتلك سيدة تقلّب بين يديها الهياكل العظمية والملابس فوقها، بحثًا عن دليل يأخذها إلى جثمان ابنها، وتلك أم إبراهيم ومحمود وجدت بقايا أجساد وملابس أحد أبنائها، فاختلف الحاضرون يقولون هذا محمود، وهي تقول: إبراهيم. فسألوها عن دليلها فقالت: “قلبي”.

“دفنا ولادنا”

دفن دون وداعات في غزة.jpg
أهل غزة يدفنون أبناءهم دون وداع

 عجلة الحزن لا تتوقف في غزة، في جباليا وبيت لاهيا ورفح، شاهدنا عائلات تتفقد الملابس الذي يبقى تحتها هيكلًا عظميًا، كان هناك شابًا يبكي شقيقه الذي عرفه من حذائه فقط، فقد فقده من أول شهر من اجتياح رفح، وبقي الأمل بداخله أن يجده حيًا لكن أمر الله غالب. في ما ظهر آخرون في فيديو مصور يُقال به: هاتوا خمس كياس، هاد رامي، وهاد نائل، وهاد لآدم البنطلون”.

أما حسام أبو الجديان ظهر في فيديو وهو يشير إلى الجثث المترامية على مرمى البصر في منطقة مشروع بيت لاهيا، “أنا دفنت ۱۵۰ شهيدًا، لأنه ما كنت قادر أوصل للمقابر”. في مشفى ناصر، حيث المشرحة، وُضعت عشرات الجثث المتحللة في أكياس نايلون، وعنّوَن كل كيس بـ”مجهول الهوية”،ومكان العثور عليه، والبعض منه قُتل قبل عام، وإن لم يتعرف عليهم أحد سيدفنون دون أسمائهم وأعمارهم، وسيطوى دفترهم الحياتي دون أن تضع أمهاتهم الورود على قبورهم كل عيد.

يغبط أهالي غزة بعضهم البعض على وجود قبور لأحبتهم، ومحظوظ هو من لم تنل من رفاته جرافات الاحتلال، معين الضبة ينعى ابنة شقيقه الذي جرف الجيش قبرها الذي كان في مدرسة للإيواء، وحين ذهابهم لنقله إلى المقبرة، وجدوه مدمرًا، فقال: “ابنة أخي الشهيدة آية علي الضبة ۱۳ عاما استشهدت في بداية العلمية البرية على تل الهوا بطلق من قناص في صدرها أثناء تعبئتها للماء في مدرسة إيواء في تل الهوا.

 استشهدت على الفور وكُفنت بشكل محكم ولفها ببطانية وحفر قبرًا لا يقل عن متر ولفه بأوجه الطاولات وقطع باطون ثم دفنها في ساحة المدرسة، وبعد ساعات اجتاح الاحتلال المدرسة وطلب من النازحين الاخلاء، ولما دخلت الهدنة حيز التنفيذ ذهب أحد أقاربي إلى مكان دفنها فلم يجدها ووجد رفاتها متناثرة مكان الدفن”.

آية لم تكن الوحيدة المدفونة في ساحة مدرسة، الآلاف غيرها دفنوا في الطرقات والمفترقات والمشافي، فأن تدفن في غزة في مقبرة بكفن كامل أبيض، رفاهية، كانوا يلفون الأحبة بالبطانية ثم يحفرون أي مكان ويضعونه بها، والآن كثير من العائلات تنقل أجساد أولادها لتكرمهم بالدفن في مقبرة. أم سالم استشهد ابنها وحفيدها في فبراير ۲۰۲۴، فدفنوهم في أرض صغيرة أمام البيت، تقول: “وأخيرًا هرتاح بدي أنقلهم بمقبرة.. انقهرت وأنا شايفهم مدفونين هيك بالطريق والصغار بلعبوا حواليهم”.

إيمان لولو كانت تنتظر انتهاء الحرب ليتمكن شقيقها والدتها من انتشال جثمان والدهم، وزوجة شقيقها، وحفيدتهم، فما زالوا منذ عام تحت أنقاض المنزل الذي قُصف في حي الرمال، في ما رفض شقيقها الطبيب عز الدين النزوح نحو الجنوب، “بطلعش غير لما اطلع أهلي من تحت الأنقاض”.

أما إيمان لولو فكانت تنتظر انتهاء الحرب ليتمكن شقيقها والدتها من انتشال جثمان والدهم، وزوجة شقيقها، وحفيدتهم، فما زالوا منذ عام تحت أنقاض المنزل الذي قُصف في حي الرمال، في ما رفض شقيقها الطبيب عز الدين النزوح نحو الجنوب، “بطلعش غير لما اطلع أهلي من تحت الأنقاض”.


أهالي الشهداء: لم تنته حروبنا بعد

العودة إلى الشمال.jpg
كريم النمنم يحتضن قبر أخيه في الشمال

 كريم النمنم فور العودة للشمال ركض للمقبرة التي يتواجد بها أخيه، ليجلس أمام قبره ويحمد الله أنه لم تنال منه جرافات الاحتلال، “خسرنا سيدنا وأخويا وخالتي وكتير كتير ناس، ومن أول ما صارت الهدنة جينا للمقبرة، الحمدلله أنه وقفت على قد هيك”. في ما تغريد محمد قالت بنبرة تملؤها الأسى: “فش فرحة راحت الفرحة، جيت أزور حبايبي في المقبرة، فقدت ابني وأختي وأبويا، كلنا خسرنا بالحرب، ما في حد ما انجرح”.

كثيرون وجدوا بين قبور الأحبة صبر وسلوان، بكوا أمام بيوتهم المدمرة، ثم توجهوا حيث القبور، ليجلسوا جلسة هادئة دون أصوات الانفجارات العنيفة، إسلام بلبل، فقدت أولادها وحماها في الحرب، زارتهم لتطمئن على قبورهم، “في حزن في قلبي شعور غريب وصفه”. تقول.

أما عبير مراد النازحة في جنوب غزة، فلم يسمح لها بعد بالعودة إلى شماله، نعت شقيقها أنس الذي قضى نحبه في الحرب، وهي واحدة من الآلاف الذين تعرضوا لغصة الفقد، فكتبت: ” ستعود الملك ابنة قلبي دون والدها أخي الطيب الهين، السمح، الجميل، كل يوم تسأل ملك عن أنس، تعد أفراد العائلة، وتعود للسؤال (ليش احنا يا عمتو ٣ ) صرنا..

تقول ملك: “بدي أبني سلم واطلع على السماء عند بابا وتاتة وعمو محمد، ملك ۵ سنوات وحور ۳ سنوات، ما زالتا عالقتان عند آخر حضن لها مع والدها الطيب، ستعود ملك وحور ونحن إلى غزة ناقصين جدًا، وسنظل بدونهم وبدون صحبتهم إلى الأبد”

تقول ملك: “بدي أبني سلم واطلع على السماء عند بابا وتاتة وعمو محمد، ملك ۵ سنوات وحور ۳ سنوات، ما زالتا عالقتان عند آخر حضن لها مع والدها الطيب، ستعود ملك وحور ونحن إلى غزة ناقصين جدًا، وسنظل بدونهم وبدون صحبتهم إلى الأبد”.

أما هبة المسحال، فقدت زوجها في هذه الحرب، عبرت وقالت: “لست متحمسة بانتهاء الحرب لن يتغير علي شيء، لن تعود لي حياتي، خسرت كل شيء، ولما اقول لفظ خسرت أعنيها بكل ما تحملها من معاني، زفور الإعلان ذهبت ابحث عن قبر زوجي لاقول له انتهت الحرب انتهت وأنت ليس معي، لكن حربي أنا بدأت للتو”.

“شقى العمر راح”

الإبادة في غزة منذ 7 أكتوبر.jpg
فقد معظم العائدين بيوتهم ووجدوها مهدمة غير صالحة للعيش “كله راح بغمضة عين”

غزة تعيش كل المتناقضات في آن واحد، الحزن ممزوج بالفرح، ثلاثية اليأس والأمل والسعادة، وجميعهم في اللحظة ذاتها، عاش الغزيون المشاعر الممتزجة، ركضوا إلى بيوتهم شمال غزة بعد أن أُجبروا على تركها تحت وطأة الموت، فرأوا مخيم جباليا بما يشمله من شوارع ومفترقات، ومشروع بيت لاهيا، وبيت حانون على الأرض حرفيًا، كله عبارة عن ركام.

 كل الصور التي خرجت من هناك على الرغم من ضرواتها وقسوتها، ليست واحد بالمئة من المشهد على أرض الواقع، وقف كل منهم على ركام البيت يبكيه، ويرثي “شقى العمر” الذي تبخر.

“بنعمرها بس يضلوا الشباب طيبين بنعمرها، أنا بطلت أسافر.. هخلي ولادي يلغوا التنسيق، الغوه يا ولاد وهات الخيمة يا كريم”.

في رفح لم يختلف المشهد عن شمال غزة، تفاجأ السكان بكمية الدمار التي تهوي بمن يشاهدها نحو حافة الجنون، وقفت السيدة أم فراس على حجارة منزلها، تقول: “۳۵ سنة عشت على القلة عشان أعمل وابني هالبيت، كله راح بغمضة عين، ابني فراس بنى شقته وحط فيها آلاف الدولارات لسا جديدة كانت محلقش يفرح عليها”.

بكت أم فراس عندما رأت بيتها بهذه الحالة ولكن سرعان ما لملمت شتات النفس، وأكدت أن بكاءها كان من هول الصدمة، لكنها راضية بما قسم الله لها، وأعلنت تحديها للاحتلال قائلة: “بنعمرها بس يضلوا الشباب طيبين بنعمرها، أنا بطلت أسافر.. هخلي ولادي يلغوا التنسيق، الغوه يا ولاد وهات الخيمة يا كريم”.

وفي مكان ليس بالبعيد عن أنقاض بيت أم فراس، وقفت أم إسماعيل تحاول استيعاب الصدمة، ولكنها ظلت تردد بكلمات الثناء والحمد، فقد بقي لها غرفة صغيرة في الطابق السفلي من البيت، أما العلوي دمر بالكامل، عقبت: “سآتي بخميتي وأنصبها في مساحة البيت الخارجية وسأبني دورة مياه، وينام جزء منا في الغرفة الآيلة للسقوط”.

المصدر: بنفسج