اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
انضمت الكويت أخيرا إلى قائمة الدول العربية التي ألغت النص التشريعي الذي كان يتيح لمرتكب جريمة خطف واغتصاب امرأة الزواج منها للإفلات من العقوبة، في توجه حظي بإشادة حقوقية لم تخل من مخاوف مرتبطة بعدم قدرة بعض المجتمعات العربية على استيعاب تلك التغيرات والتمسك بتفعيل العقوبة بعيدا عن الاحتماء بالعرف، خشية الفضيحة والعار لتبرير اللجوء إلى تزويج الفتاة من مغتصبها دون اللجوء إلى القضاء.
ووافق مجلس الوزراء الكويتي على مشروع مرسوم بقانون يقضي بإلغاء المادة ۱۸۲ من قانون العقوبات التي تنص على أنه “إذا تزوج الخاطف بمن خطفها زواجا شرعيا بإذن من وليّها، وطلب الولي عدم عقاب الخاطف، لا يحكم عليه بعقوبة ما،” في خطوة اعتبرها وزير العدل الكويتي ناصر السميط ضرورية لترسيخ مبادئ الكرامة الإنسانية، واستجابة لفتوى دينية تؤكد أن النص مخالف للشريعة، ويتناقض بشكل كلّي مع الدستور الكويتي.
وسبقت الكويتَ في تلك الخطوة مصر والمغرب وتونس والأردن وفلسطين ولبنان والبحرين، لكن المعضلة الحقيقية التي لا تزال بعض الحكومات تغفلها أن إلغاء النص الخاص بعدم معاقبة مرتكب جريمة خطف واغتصاب امرأة إذا تزوج منها، لا يطبق عمليا بشكل كبير، ويكاد يكون تفعيل العقوبة نادرا، لأن زواج المغتصب من الضحية قد يحدث قبل اللجوء إلى المحكمة من خلال ارتكان العائلتين إلى الحلول العرفية.
وتكفي مطالعة الأحكام القضائية الصادرة في عدد من الدول التي ألغت معاقبة المغتصب للوقوف على أن التشريعات وحدها لا تكفي للوقوف على جاهزية المجتمعات نفسها لقبول فكرة الإلغاء انتصارا لحق المرأة، في ظل التعامل الذكوري مع النساء كفئة ثانية يجب عليهن الاستسلام لما تقره التقاليد والأعراف، وإذا وافق ولي المرأة على أن تتزوج بلا معاقبة المغتصب فهذا لا يمنحها الحق في الرفض وإلا عوقبت أسريا ومجتمعيا.
ومهما كانت الحكومات مقتنعة بحق المرأة في القصاص لنفسها من المغتصب، فإن الأزمة الحقيقية مرتبطة بأن بعض المجتمعات أو البيئات السكانية تعتبر أن في الأمر مساسا بمبدأ الشرف، أي أن الاكتفاء بخطوة التعديلات التشريعية التي تُحاكم المجرم ليس كافيا إذا لم يوازه الكثير من نشر الوعي في ما يتعلق بأهمية دور المرأة في تحقيق أمن المجتمع والتوازن بين أفراده، وحقها الكامل في أن تقرر الزواج أو تُحاكم من انتهك جسدها.
وكافحت منظمات نسوية في العديد من البلدان العربية لإقناع حكوماتها بأن الإبقاء على النص التشريعي الخاص بعدم محاكمة المتهم بالخطف والاغتصاب نظير الزواج من الضحية، يحمل إهانة بالغة للمرأة؛ لأنها إذا تعرضت لهذا الفعل المشين مرة واحدة، وتزوجت إجبارا من المتهم بحجة الحفاظ على الشرف، فإن المجتمع يجعلها تتعرض للاغتصاب بشكل يومي تحت ستار الزواج والحفاظ عليها من الفضيحة.
ولم تقتنع بعض الحكومات العربية بعد بأن الإبقاء على النص التشريعي الذي يبرئ المتهم من عقوبة الاغتصاب إذا تزوج الضحية، يعني أن القانون بذلك يُعاقب المرأة وحدها، ويُنصف الجاني عندما يعفيه من العقوبة بموجب القانون، وكل ذلك بمباركة المجتمع للجريمة وزف الضحية إلى جلادها، ما يمثل انتهاكا صارخا لآدمية المرأة باسم القانون وتحت حماية المجتمع وبمشاركته لمجرد أن النساء مجبرات على الاستسلام للأغلبية الذكورية.
والأكثر مرارة أن هناك آثارا نفسية سيئة تتعرض لها ضحايا الاغتصاب، سواء تزوجن من مغتصبيهن أو عوقب المجرمون، حيث تصبح لديهن ذكريات أليمة يصعب تجاوزها بسهولة لتصبح بمثابة كابوس دائم يطاردهن طيلة حياتهن، ورغم ذلك لا تتبنى الحكومات التي ألغت هذا النص تأهيل النساء ضحايا الاغتصاب ضمن برامج اجتماعية ونفسية وتربوية متخصصة كي يتمكنّ من العودة إلى الانخراط في المجتمع، بل يُتركن للمجهول.
ولئن تباهت بعض الحكومات بأن إلغاء معاقبة المتهم إذا تزوج الضحية يعكس تمسكها بالقيم الإنسانية التي تُعلي من شأن المرأة، فالحقيقة أن التحرك نحو التعديل والإلغاء قد يكون مرتبطا بزيادة معدلات الاعتداءات التي تتعرض لها النساء، والتمسك بمعاقبة المجرم قد يكون محاولة أخيرة للحد من نسب الخطف والاغتصاب، لأن التوقيت له دلالات كثيرة تشير إلى أن الجرائم التي تُرتكب بحق المرأة أصبحت بحاجة إلى تشريعات صارمة.
ويرى حقوقيون متخصصون في شؤون المرأة أن الإصرار على محاسبة المتورطين في جرائم الاغتصاب خطوة إيجابية وإن تأخرت كثيرا، لكن الوقوف عندها خطأ ما لم يتبعها إلغاء أي نص تشريعي يتغاضى عن العنف الجسدي والجنسي ضد النساء والفتيات ومرتكبي التمييز بحقهن، لأن هناك مواد قانونية في تشريعات بعض البلدان مليئة بالثغرات التي تفتح الباب أمام المتورطين في العنف ضد النساء للإفلات من العقوبة بأريحية.
وحسب لجنة الأمم المتحدة المعنية بالقضاء على العنف ضد المرأة، فإن الخطر الأكبر يكمن في وجود مواقف اجتماعية تجعل الأنثى مسؤولة عن سلامتها الخاصة، وعن العنف الذي تعانيه، في ظل الإبقاء على تشريعات تصون وتشجع وتسهل أشكالا من العنف القائم على الجنسانية ضد المرأة، ما يحمل تطبيعا قانونيا مع المعتدين بشكل يتطلب إحداث ثورة تشريعية منصفة للسيدات إذا قررت أي دولة احترام حقوق المرأة.
يطرح متابعون لقضية إلغاء تبرئة المجرم حال تزوج من الضحية، تساؤلات كثيرة دون إجابات حكومية قاطعة، من بينها: كيف يمكن التيقن من أن هناك امرأة تعرضت للاغتصاب وتزوجت من الجاني دون محاسبته؟ وماذا لو حملت الضحية من المتهم، وكيف سيكون مصير الطفل، هل يُكتب باسم الأم أم الجاني؟ وأين التشريعات الخاصة بمحاسبة الأسر التي تُجبر الفتاة على الزواج من مغتصبها؟
يتفق هؤلاء المتابعون على أن إلغاء المادة الخاصة بإعفاء المجرم من العقوبة حال تزوج الضحية، ضروري لمنع إفلات المعتدي في الجرائم الجنسية من العقاب، لكن لم تتطرق الكثير من التشريعات الحديثة بعد التعديل إلى أن إكراه المرأة أسريا على الزواج دون اللجوء إلى القضاء لمحاسبة المتهم يحمل تغطية متعمدة على جريمة يستحق كل من تساهل معها أن يُعاقب، والكثير من المجتمعات تُسير أمورها بالعرف.
والخطورة الأكبر هي وجود أسر لا تقتنع أحيانا بأن العلاقة الجنسية حدثت نتيجة اغتصاب قهري، وتميل إلى أنها حدثت برضا الضحية، لذلك تُجبرها على الزواج من المغتصب بعيدا عن أعين القضاء، وهنا تكون المرأة عاجزة عن التصرف أو التمرد على القرار العائلي الذي يُجبرها على علاقة زوجية لم تخترها، بل تكون مع شخص انتهك جسدها لتصبح مكرهة على الاستجابة لإتمام الزواج تحت ضغوط وتهديدات عائلية ومجتمعية.
وهناك شبه اتفاق بين متخصصين في العلاقات الزوجية على أن حالات الزواج التي تحدث بين المغتصب والضحية فاشلة ولا تدوم، لأنها تتم لمجرد تهرب المتهم من العقوبة وليس عن قناعة ورضا وتخطيط لتأسيس أسرة في إطار من العشرة الطبيعية المبنية على الاحترام المتبادل، لذلك تصبح تلك الزيجات منتهية الصلاحية، وإذا استمرت لفترة تأتي على حساب الضحية التي تقضي سنوات من الانتهاك والاستغلال.
وأكدت عبير سليمان، الباحثة والناشطة في مجال حقوق المرأة بالقاهرة، أن التشريعات الخاصة بحقوق النساء بحاجة إلى تعديلات جذرية تنهي سلطة الأمر الواقع الاجتماعي على خيارات المرأة في تسيير أمورها الخاصة، لأن المشكلة ليست في إلغاء العقوبة إذا تزوجت الضحية من المجرم، بل في إمكانية فرض ذلك عليها بشكل أسري ومجتمعي دون معرفة القضاء، وتلك ثغرة لم تنتبه إليها الكثير من التشريعات الجديدة.
وأضافت في تصريحات لـ”العرب” أن المجتمع لا يسمح باستقلال قرار النساء، كما تعتقد بعض الحكومات العربية، مع أن تكريس ثقافة عدم تدخل الأسرة والمجتمع في حياة المرأة عندما يرتبط الأمر بالشرف والعرض والجسد، سيكون كفيلا بتطهير المجتمع من المجرمين الذين اعتادوا توظيف الأعراف والتقاليد والسلبية الأسرية في التنازل عن حقوق المرأة بدافع تحصينها من ألسنة الناس، مع أن ذلك يجعل منها جانية لا ضحية.
ما يؤكد وجود ثغرات قانونية خاصة بمعاقبة المغتصبين أن مصر التي كانت من أوائل البلدان العربية التي ألغت إعفاء المغتصب من العقوبة إذا تزوج الضحية، شهدت قبل عامين واقعة تصالح بين أسرتي شاب وفتاة تعرضت للاغتصاب وتم إبرام عقد زواج مقابل التنازل عن مقاضاة المتهم، باعتبار أن الطرفين تصالحا وحدث الزواج بموافقة الضحية، واكتفى القاضي بإلزام المتهم بمنح الفتاة حقوقها المادية بقيمة ۹۰۰ ألف جنيه (الدولار= ۵۱ جنيها).
وأعادت واقعة التصالح بين أسرتي شاب وفتاة تعرضت للاغتصاب على يديه وإبرام عقد زواج عرفي مقابل التنازل عن مقاضاته الحديث عن الثغرات التي لا تزال موجودة في القوانين المصرية ويستفيد منها المتهم بالاعتداء الجنسي على الفتاة مقابل أن يتصالح الطرفان ويخرج الجاني من القضية وهو متزوج من الضحية، بدلا من حبسه.
آنذاك أثارت الواقعة غضبا نسائيا واسعا، لأن هناك نصا تشريعيا بعدم إعفاء المتهم من العقوبة بالسجن المؤبد، لكن المحكمة رأت أن الشاب ملتزم بمنح الفتاة حقوقها المادية وأقرت التصالح استجابة لرغبة الجاني والمجني عليها وأسرتيهما بعد تنازل الضحية عن مقاضاة مغتصبها وطلبت إسقاط حقها، ما يؤكد أنه مهما كانت هناك تشريعات عقابية صارمة ضد المغتصبين سوف تظل الأعراف العائلية أقوى من سلطة القانون والدستور.
الخطر الأكبر يكمن في وجود مواقف اجتماعية تجعل الأنثى مسؤولة عن سلامتها الخاصة
وعلى النقيض من ذلك كانت هناك واقعة أخرى في مصر تصالح خلالها والد الفتاة مع المغتصب وطلب التنازل عن حقها، لكنها أصرت على الوقوف بشجاعة أمام القاضي لتطلب الثأر لنفسها ولم تعترف بما ذهب إليه الأب، ما دفع المحكمة إلى أن تستجيب لرغبة الفتاة وتحكم على المتهم بالإعدام، رغم أنه طلب الزواج منها بداعي الستر ومنحها كل ما تريده من أموال وحقوق، لكنها رفضت وتمسكت بتطبيق القانون، لتتحدى الأسرة وأعراف المجتمع.
وما بين الموقفين يمكن البناء على أن التعديلات التشريعية المنصفة للنساء قد لا تكون ذات قيمة ما لم تكن المرأة نفسها لديها شجاعة استثنائية في اقتناص حقها من المعتدي عليها، ما يتطلب منها أن تكون وحدها مسؤولة عن قرارها، بعيدا عن وصاية الأسرة والمجتمع أو الانصياع لضغوط المحيطين للزواج في صمت بذريعة تجنب الفضيحة وجلب العار وتشويه صورتها وعائلتها، وإن خسرت مقابل ذلك أشياء كثيرة.
وليس مهما أن تكون ضحية الاغتصاب التي تتمسك بمعاقبة المعتدي ابنة لعائلة كبيرة أو تتمتع بمستوى اجتماعي مرموق، المهم أن تكون شجاعة ولديها إصرار وعزيمة تُجبر المجتمع على التعاطف معها ودعمها. فالفتاة المصرية التي جلبت الإعدام لمغتصبها كانت ابنة لأسرة بسيطة في صعيد مصر، ذلك المجتمع القبلي الذي يُسير أغلب أموره بالعرف بعيدا عن القانون، لكنها لم تُبال بذلك وأجبرت القضاء على تطبيق القانون.
ويفرض هذا الواقع على المؤسسات القضائية في المجتمعات العربية الاقتناع بأن ضحية الاغتصاب وحدها من تقرر التصالح أم لا، بعيدا عن التعامل معها كإنسان منزوع الإرادة يحتاج إلى ولي يحدد له مستقبله، إذا كانت هناك إرادة حقيقية للقضاء على رواسب التشريعات غير الآدمية التي كانت تُعفي المغتصب من العقوبة إذا تزوج الضحية، لأن القضاء على الزواج بالتراضي بعد الاغتصاب يتطلب أن تصبح المرأة وحدها سيدة قرارها.
العرب