تراجع معدلات الزواج والولادات والخصوبة في تونس

يرى المختصون في الشأن الديمغرافي أن استمرار التراجع في معدلات الزواج والولادات والخصوبة، من شأنه أن يعمّق إشكاليات شيخوخة المجتمع التونسي، مقترحين تقديم حوافز موجّهة للأسر الشابة بُغية تحسين قدرتها الشرائية، وحلولا تساعد النساء على التوفيق بين حياتهن المهنية والعائلية. ويرجع المختصون تراجع معدلات الزواج إلى تأخر سن الزواج مقارنة بما كان عليه في السبعينات.

شهدت معدلات الزواج والولادة والخصوبة في تونس منحى تنازليا خلال السنوات الأخيرة ما يؤشر على توجه المجتمع التونسي نحو شيخوخة متسارعة.

وكشفت إحصائيات حديثة للمعهد الوطني للإحصاء عن تراجع ملحوظ في عدد من المؤشرات الديمغرافية بالبلاد التونسية، منها انخفاض حالات الزواج بنحو ۱۰ في المئة خلال سنة ۲۰۲۴ مقارنة بالسنة التي سبقتها.

وبيّنت الأرقام الواردة في النشرة الشهرية للإحصاء لشهر يوليو، أن عدد حالات الزواج قد بلغ ۷۰۹۴۲ حالة خلال سنة ۲۰۲۴ مقابل ۷۸۱۱۵ حالة خلال سنة ۲۰۲۳ أي بتراجع بأكثر من ۸ آلاف حالة.

وأظهرت نفس الأرقام تراجعا في عدد الولادات ليبلغ ۱۳۳ ألفا و۳۲۲ خلال سنة ۲۰۲۴، مقابل ۱۴۷ ألفا و۲۴۲ في سنة ۲۰۲۳، أي بانخفاض يقارب ۱۰ في المئة في ظرف عام واحد.

ويعكس هذا التراجع استمرار المنحى النزولي لمعدل الولادات في تونس خلال السنوات الأخيرة، في ظل تحولات اجتماعية واقتصادية وديمغرافية متداخلة، من بينها تغير أنماط الزواج، وتأخر سن الإنجاب، فضلا عن الضغوط الاقتصادية التي تؤثر في قرارات العائلات بشأن الإنجاب.

معدل النمو الديمغرافي السنوي انخفض إلى ۰٫۸۷ في المئة خلال الفترة من ۲۰۱۴ إلى ۲۰۲۴، وهو الأضعف منذ الاستقلال

وفي تشخيصه لظاهرة تراجع معدلات الزواج في تونس، قال المختص في علم النفس أحمد الأبيض لـ”العرب” إن تأخر سن الزواج هو ظاهرة متنامية، مشيرا إلى أنها ارتفعت إلى أكثر من ۳۰ سنة في السنوات الأخيرة بعدما كانت في الستينات والسبعينات تتراوح بين ۲۰ و۲۲ سنة في الغالب. وأرجع الأبيض عزوف الشباب عن الزواج في تونس إلى تفوق الإناث على الذكور على المستوى العلمي ما يؤهلهن لتقلد مناصب عليا مقارنة بالذكور وهو ما يخلق حاجزا بين الجنسين، يقلل من فرص التقارب بينهما.

ويرى الأبيض أن الشباب في تونس أصبحوا مسكونين بهاجس الهجرة وقد نجح أغلبهم في مغادرة البلاد ما يعني أن ليس لديهم فكرة الزواج بتونسية وإنجاب الأطفال.

من جهة أخرى تحدث الأبيض عن ظاهرة اكتظاظ المقاهي بالرجال منذ ساعات الصباح الأولى، وهو ما يعكس نفور الأزواج من منازلهم، في مؤشر على فشل العلاقات الزوجية وعدم قدرة الشريكين على احتواء بعضهما البعض. واقترح المختص في علم النفس ضرورة خضوع الشريكين لتكوين قبل الزواج الغاية منه جعلهما قادرين على النجاح في الحياة الزوجية.

ويعيش التونسيون ضغوطا اقتصادية بسبب الأزمة التي تضرب اقتصاد البلاد منذ نحو عقد، والتي ألقت بظلالها على أولوياتهم في المعيشة اليومية وانعكست أيضا على الارتباطات الاجتماعية بتراجع عقود الزواج سنة بعد سنة.

ووفق بيانات للمعهد الوطني للإحصاء تراجعت الزيجات في تونس بنسبة ۳۰ في المئة، حيث انخفض عدد عقود الزواج ليصل إلى ۷۸ ألف عقد سنة ۲۰۲۲ بعد أن كان في حدود ۱۱۰ آلاف عقد سنة ۲۰۱۴٫

التحدي المطروح اليوم يتمثل في الحفاظ على التوازن بين الأجيال من خلال الجمع بين دعم الأسر وإدماج الشباب وإصلاح منظومة الحماية الاجتماعية

وأرجعت المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك هذه الأزمة إلى ارتفاع كلفة الزواج في تونس لتبلغ في المتوسط حوالي ۵۰ ألف دينار (۱۵ ألف يورو)، يشمل ذلك لوازم حفل الزفاف وخاتم الخطوبة وجهاز العروس وحليها وتجهيزات بيت العروسين، وهي موازنة لم تعد في متناول شريحة واسعة من التونسيين في بلد تناهز فيه بطالة الشباب ۳۷ في المئة مع فرص محدودة في سوق الشغل بسبب ضعف النمو.

وكشف التعداد العام للسكان والسكنى لسنة ۲۰۲۴ أن معدل الخصوبة بلغ ۱٫۷ طفل لكل امرأة، وهو مستوى أدنى بكثير من معدل الإحلال السكاني (۲٫۱ طفل لكل امرأة النسبة الدنيا لتجديد الأجيال)، ما يشير إلى توجه المجتمع التونسي نحو شيخوخة متسارعة.

كما أبرز التعداد أن معدل النمو الديمغرافي السنوي انخفض إلى ۰٫۸۷ في المئة خلال الفترة من ۲۰۱۴ إلى ۲۰۲۴، وهو الأضعف منذ الاستقلال.

وتُظهر هذه المؤشرات تحولا ملحوظا في التركيبة العمرية للسكان، مع ارتفاع نسبة كبار السن وتراجع قاعدة الهرم السكاني من فئة الأطفال والشباب، وهو ما يطرح تحديات مستقبلية أمام سوق الشغل، ونظم الحماية الاجتماعية، والسياسات العمومية في مجالات الصحة والتعليم والرعاية.

ويرى مختصون في الشأن الديمغرافي أن استمرار هذا التراجع في معدلات الزواج والولادات والخصوبة، قد يعمّق إشكاليات شيخوخة المجتمع إذا لم يتم اعتماد سياسات فعالة، مؤكدين الحاجة إلى مقاربات شاملة توازن بين الفئات العمرية وتضمن استدامة المنظومات الوطنية.

واقترح المختصون حلولا تشجع على الزواج والإنجاب مثل تقديم حوافز موجّهة للأسر تخصص لرعاية الأطفال والسكن، والامتيازات الجبائية، والتوفيق بين الحياة المهنية والعائلية (خدمات عن قرب، عطل مرنة، أوقات عمل مناسبة)، وتحسين فرص التشغيل والقدرة الشرائية للأسر الشابة، واعتماد سياسة جهوية تقلّص الفوارق في النفاذ إلى الخدمات، والارتقاء بالكفاءات وتكييف مسارات التكوين مع حاجيات اقتصاد أكثر إنتاجية، واعتماد تخطيط صحي استباقي لمواجهة تزايد الأمراض المرتبطة بالتقدم في السن.

ويرى المختصون أن التحدي المطروح اليوم يتمثل في الحفاظ على التوازن بين الأجيال من خلال الجمع بين دعم الأسر وإدماج الشباب وإصلاح منظومة الحماية الاجتماعية، بما يضمن استمرارية الديناميكية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي.

بدورها لفتت وزير المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن أسماء الجابري إلى أنّ الوزارة تدعمُ تماسك الأسرة وتهدف إلى تعزيز صمودها أمام تفاقم الظواهر الاجتماعية التي تهدّدها، بعد أن كشفت أن نسبة الزيجات تقلّصت من ۲٫۰۲ في المئة سنة ۲۰۱۳ إلى ۱٫۲۱ في المئة سنة ۲۰۲۱، مقابل ارتفاع نسب الطلاق.

وكانت وزارة المرأة قد وضعت جملة من برامج الإدماج الاجتماعي والاقتصادي الموجّهة إلى أفراد الأسرة تراعي خصوصياتهم بهدف بناء أسرة مستقرة ومتوازنة، وفق تصريح الوزيرة.

وأوضحت الجابري أنّ هذه البرامج تتمثّل في التربية على ثقافة تقاسم الأدوار ونبذ أشكال العنف الذي تفشّى خاصة في الوسط الأسري بشكل ملحوظ وترسيخ الخطاب الإيجابي لتحقيق الإدماج الاجتماعي للأسرة.

كما تقوم البرامج على “إعداد الشباب للحياة الزوجية من خلال التثقيف المالي والتنشئة على القيم والثوابت المجتمعية والحقوقية والابتعاد عن الظواهر الاجتماعية السلبية الخطيرة، خاصة مناهضة الإدمان بجميع أشكاله بما في ذلك الإدمان الإلكتروني،” حسب قول الوزيرة.

ووفق إحصائيات أعلنتها وزارة العدل في ديسمبر ۲۰۲۳، فإنّ أحكام الطلاق الصادرة خلال السنة القضائية ۲۰۲۱ – ۲۰۲۲ وصلت إلى ۱۴ ألفا و۷۰۶ أحكام طلاق.

ويحذّر خبراء علمي النفس والاجتماع من تأثير شبكات التواصل على تزييف العلاقات الاجتماعية والأسرية.

ويعيد البعض الارتفاع اللافت في نسب الطلاق في المجتمع التونسي إلى هشاشة مؤسسات الزواج في سنواتها الأولى.

ويعود تراجع معدّلات الزواج ،حسب الخبراء، إلى عدة عوامل، من بينها العوامل الاقتصادية، خاصة مع ارتفاع كلفة الزواج والمعيشة في تونس إضافة إلى خيار استكمال كل مراحل الدراسة بالنسبة إلى البعض الآخر.

العرب