حجاب المراهقات في فرنسا: أين يقف الخط الفاصل بين الحريات الشخصية والعلمانية؟

يُظهر الجدال حول حجاب المراهقات في فرنسا الخلافات بشأن حدود الحريات الشخصية في البلاد، علماً أنّ التزام المسلمات به قضية تعود لتُثار من حين إلى آخر.

قامت في فرنسا موجة سجال أخيرة على الصعيدَين السياسي والاجتماعي مع إثارة موضوع حظر حجاب الفتيات دون الخامسة عشرة في الأماكن العامة. ومذ قدّم حزب “الجمهوريون” المحافظ مشروع قانون جديداً في هذا الإطار، عاد ملف “حجاب المراهقات” ليقسم الحكومة ويثير أسئلة تتجاوز حدود اللباس إلى صلب العلاقة بين المواطنين والدولة والهوية والدين.

ويقود المحافظون في مجلس الشيوخ الفرنسي حملة تهدف إلى “تجريم” حجاب الفتيات في الأماكن العامة، في خطوة لـ”كبح نفوذ الإسلام السياسي”. ويشتمل مشروع القانون على إجراءات إضافية، من بينها إلزام الأمهات اللواتي يرافقنَ أبناءهنّ إلى المدرسة بنزع حجابهنّ، وقيود على ممارسات دينية من قبيل صيام الأطفال في رمضان، وتطبيق “حياد ديني صارم” على السياسيين المنتخَبين.

ويبرّر مؤيّدو المشروع بأنّ هذه الإجراءات تأتي لمكافحة ما يوصف بـ”الأسلمة” في عالم الرياضة والمجتمع المدني. ويرى مؤيدو المشروع أنّه لحماية الفتيات من “تأثيرات دينية مبكرة”، فيما يرى معارضوه أنّه تدخّل غير مبرّر في حياة المواطنين المسلمين، واعتداء على الحريات الأساسية.

وقد أثار المقترح خلافاً واضحاً بين وزراء حكومة إيمانويل ماكرون؛ فبينما تؤيّد وزيرة المساواة الجندرية ومكافحة التمييز في فرنسا، أورور بيرجيه، حظر حجاب الفتيات، وتعدّه ضرورة لمواجهة “السيطرة على العقول”، فإنّ وزير الداخلية لوران نونييز يعبّر عن رفضه، محذّراً من “وصم المواطنين المسلمين”. ووصف نونييز مشروع القانون بأنّه اقتراب خطر من انتهاك حرية التعبير، وفقاً لما نقلته القناة التلفزيونية الفرنسية “بيه إف إم تيه فيه”.

وهكذا أعاد هذا الانقسام إلى الواجهة نقاشاً مستمرّاً منذ أوّل جدال بشأن الحجاب في المدارس في عام ۱۹۸۹، مروراً بقوانين عامَي ۲۰۰۴ و۲۰۱۰ التي شدّدت القيود على الرموز الدينية. ويتزامن الجدال القائم اليوم مع نتائج بحثيّة عزّزت المخاوف لدى عدد من السياسيين إزاء تنامي التديّن بين الشبّان المسلمين.

ووفقاً لاستطلاعات رأي، من بينها استطلاع مثير للجدال نُشر في ۱۸ نوفمبر/ تشرين الثاني ۲۰۲۵، أعدّه المعهد الفرنسي للرأي العام، فإنّ ۵۹% من المسلمين الذين تتراوح أعمارهم ما بين ۱۵ عاماً و۲۴ يؤيّدون “تطبيق الشريعة”. كذلك يبيّن الاستطلاع الأخير أنّ ۴۴% من الشابات المسلمات يلتزمنَ بالحجاب اليوم في مقابل ۱۶% فقط في عام ۲۰۰۳، فيما نصف الشبّان المسلمين يرفضون المصافحة باليد.

إلى جانب ذلك، تُظهر البيانات أنّ ۳۱% فقط من النساء المسلمات في فرنسا يلتزمنَ بالحجاب عموماً، وأنّ المسلمين بغالبيتهم لا يتبنّون آراء راديكالية. وفي تعليق على هذه البيانات، قال الباحث فرانسوا كرو إنّ “الأرقام تعكس تحوّلاً مجتمعياً، لكنّها لا تثبت بالضرورة وجود مشروع إسلاموي منظّم”، بحسب ما نقلت صحيفة “لوموند” الفرنسية.

وفي وقت تُسجَّل فيه حماسة سياسية إزاء مشروع القانون المشار إليه، يحذّر رجال قانون من أنّ حظر الحجاب على القاصرات في الأماكن العامة قد يصطدم بالدستور، وفقاً لما تشير إليه جهات حقوقية، من بينها منظمة العفو الدولية التي تؤكد أنّ حريات التعبير والعقيدة واللباس محميّة دستورياً، وأنّ تدخّل الدولة في مظهر الأطفال خارج المدرسة يُعَدّ سابقة خطرة، وأنّ من المرجّح أن يرفض مجلس الدولة (أعلى محكمة إدارية في فرنسا) مشروع القانون هذا بوصفه “غير دستوري”.

في سياق متّصل، ذكّرت صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية بأنّ خمسة أو ستّة مقترحات مشابهة لم تتحوّل إلى قوانين، خلال العقدَين الماضيَين. ويحذّر خبراء حقوقيون من أنّ أي حظر يطاول الحجاب أو الرموز الدينية في الأماكن العامة، بما يشمل القاصرات، قد يخرق حرية العقيدة والتعبير، الأمر الذي يمثّل عامل ضغط قانونياً ودستورياً ضدّ مقترحات مماثلة.

كذلك كانت مذكّرة سابقة، قانون عام ۲۰۰۴، قد منعت وضع رموز دينية (بما في ذلك الحجاب) في المدارس الحكومية، لكنّها لم تمنع الحجاب في كلّ الأماكن العامة. وعلى مدى سنوات، دعا عدد من سياسيي اليمين إلى فرض قيود أوسع في مجال الرياضة وفي الأماكن العامة والمؤسسات، لكنّ هذه الدعوات بقيت في الغالب في إطار المقترحات ولم تُقَرّ تشريعات شاملة.

ولم يعد الجدال حول حجاب المراهقات في فرنسا مجرّد نقاش حول “قطعة قماش”، بل تحوّل إلى مرآة تعكس صراعاً أعمق يتجاوز أسوار المدارس ورصيف الشوارع. القضية تتعلّق برؤيتَين متنافستَين لفرنسا نفسها؛ دولة تسعى إلى حماية فضائها العام من خلال علمانية صارمة، وجالية مسلمة كبيرة تشعر بأنّ سلسلة القوانين المتعلقة بالحجاب تستهدفها وتضيّق خيارات بناتها.

ووسط ذلك، ينقسم المجتمع الفرنسي بصورة متزايدة. ثمّة من يرى في الحريات الفردية صلب الهوية الجمهورية وحقاً غير قابل للتفاوض، في حين ينظر آخرون إلى الإظهار المتزايد للرموز الدينية بوصفها تهديداً محتملاً للنموذج العلماني، بل وربّما مؤشّراً إلى صعود تيارات دينية متشدّدة. وبين هاتَين الرؤيتَين، نرى النقاش محاصراً بحدّ ذاته ما بين المخاوف والهويات، في بلاد تصرّ على الفصل ما بين الدين والدولة، ويصطدم بتعقيدات واقع اجتماعي يتغيّر بسرعة.

وهكذا يتحوّل الحجاب إلى أكثر من رمز ديني؛ فهو أشبه بساحة اختبار لمدى قدرة النموذج الفرنسي على احتضان التعددية الثقافية من دون التفريط في مبادئه التاريخية. هل يستطيع هذا النموذج إيجاد نقطة توازن جديدة بين صرامة العلمانية وحيوية التنوّع؟ أم أنّ الهوية الوطنية سوف تظلّ في مواجهة مفتوحة مع هويات دينية تتزايد مظاهرها؟ الأسئلة معلّقة، فيما الجدال صار من ملامح فرنسا الحديثة.

وتتفاعل في هذا السجال ثلاثة مستويات متشابكة، هي سياسة تسعى إلى ضبط الدين وحماية المجال العام، ومجتمع يعيش تحوّلات ثقافية عميقة وعودة أقوى للتديّن بين فئات منه، ودستور يضع حدوداً واضحة أمام تدخل الدولة في الحريات الشخصية، خصوصاً حين يتعلّق الأمر باللباس والهوية.

وبينما يواصل البرلمان وكذلك الهيئات السياسية طرح المقترحات، تبقى فرنسا أمام معضلة لم تجد جواباً قاطعاً بعد: كيف يمكن حماية القاصرات من دون المساس بحقوق مواطنات غالباً ما يُنظَر إليهنّ من منظور أمني وسياسي، وليس بوصفهنّ أفراداً يمتلكنَ خيارات شخصية؟ هو سؤال مفتوح في سياق نقاش فرنسي من المتوقّع استمراره لسنوات.

شفقنا