اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
وفي خطوة تعكس تصاعد القلق العالمي من إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي، أعلنت الحكومة الأسترالية عن نيتها إلزام شركات التكنولوجيا العملاقة باتخاذ إجراءات حاسمة لمنع تطوير أو نشر أدوات تُستخدم في إنتاج صور ومقاطع فيديو إباحية مزيفة، أو في ممارسات التعقب الرقمي المستمر (Stalking) التي تتيح مراقبة الأفراد دون علمهم أو موافقتهم.
وزيرة الاتصالات الأسترالية، أنيكا ويلز، شددت على أن “لا مكان للتطبيقات والتقنيات التي تُسخّر حصريًا لإساءة معاملة الناس وإذلالهم وإيذائهم، وخصوصًا الأطفال،” مؤكدة أن الحكومة ستستخدم “كل الوسائل” الممكنة لفرض قيود على الوصول إلى هذه التطبيقات، وإلزام الشركات الكبرى بحظرها من منصاتها ومتاجرها الرقمية. وأضافت أن هذه الخطوة، رغم أنها لن تقضي على المشكلة بين ليلة وضحاها، إلا أنها ستشكل حاجزًا وقائيًا مهمًا إلى جانب القوانين القائمة وإصلاحات السلامة الرقمية التي تعمل أستراليا على تطويرها.
◄ القوانين مهما بلغت صرامتها، والتقنيات مهما تطورت، لن تكون كافية إذا لم يصاحبها إدراك جماعي لخطورة هذه الممارسات ورفض قاطع لتطبيعها أو تبريرها
الحكومة الأسترالية تدرس حاليًا تشريعًا جديدًا يجرّم المحتوى الإباحي المُولّد بالذكاء الاصطناعي وأشكال التحرش عبر الإنترنت، لكنها لم تحدد بعد جدولًا زمنيًا لإقراره. هذه المبادرة تأتي في وقت تتزايد فيه الحوادث عالميًا، إذ أظهر استطلاع أجرته منظمة “إنقاذ الأطفال” في إسبانيا أن واحدًا من كل خمسة شباب تعرض لصور عارية مزيفة. وفي حادثة صادمة، فتح الادعاء الإسباني تحقيقًا مع ثلاثة قاصرين في مدينة بويرتولانو، يُشتبه في أنهم استهدفوا زملاءهم ومعلميهم بمحتوى إباحي مُولّد بالذكاء الاصطناعي ووزعوه داخل المدرسة.
التجارب الدولية تقدم نماذج مختلفة للتعامل مع الظاهرة. ففي المملكة المتحدة أُقر هذا العام قانون يجرّم إنتاج مقاطع “التزييف العميق” ذات الطابع الجنسي، مع عقوبات تصل إلى السجن سنتين. وفي الولايات المتحدة أقر الكونغرس في مايو قانونًا لمكافحة “التزييفات العميقة” و”الانتقام الإباحي”؛ وهو نشر صور جنسية بدافع الانتقام، وغالبًا ما يكون بعد انتهاء العلاقات. أما في هونغ كونغ، فقد عُثر في يوليو على مئات الصور الإباحية المزيفة، المولدة بالذكاء الاصطناعي، لطالبات جامعيات على كمبيوتر أحد الطلاب، ما أثار موجة غضب ودعوات لتشديد القوانين.
شركات التكنولوجيا نفسها باتت في مرمى المواجهة. فقد أعلنت “ميتا” -المالكة لفيسبوك وإنستغرام وواتساب- عن رفع دعوى قضائية في هونغ كونغ ضد شركة Joy Timeline HK Limited المطوّرة لتطبيق “Crush AI” الذي يتيح إزالة الملابس رقميًا من الصور. ووفقًا لميتا نشر التطبيق أكثر من ۸۰۰۰ إعلان لخدماته خلال أسبوعين فقط في مطلع ۲۰۲۵، معظمها عبر منصاتها، مستخدمًا العشرات من الحسابات الإعلانية وأسماء نطاقات متغيرة للتحايل على أنظمة المراجعة. هذه القضية تسلط الضوء على التحدي المزدوج الذي تواجهه المنصات: ملاحقة التطبيقات المسيئة، وفي الوقت نفسه سد الثغرات التقنية التي تسمح لها بالانتشار.
ورغم هذه الجهود يحذر خبراء الأمن الرقمي من أن تطبيقات “التزييف العميق” الإباحي تتمتع بقدرة عالية على الصمود والتكيف، إذ تُمكن لمطوريها إعادة إطلاقها تحت أسماء جديدة أو عبر خوادم خارجية، ما يجعل المواجهة القانونية والتقنية سباقًا مستمرًا مع الزمن. ويشير بعض الباحثين إلى أن الحل يتطلب تعاونًا دوليًا أوسع، يشمل تبادل المعلومات بين الحكومات والشركات، وتطوير تقنيات كشف متقدمة قادرة على رصد المحتوى المزيف قبل انتشاره.
تأتي المبادرة الأسترالية في سياق أوسع من التحولات العالمية نحو وضع أطر تنظيمية صارمة للذكاء الاصطناعي، خاصة في المجالات التي تمس الخصوصية والسلامة الرقمية.
فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، يقترب من إقرار “قانون الذكاء الاصطناعي” الذي يصنف التطبيقات بحسب مستوى المخاطر، ويضع قيودًا مشددة على الاستخدامات عالية الخطورة، بما في ذلك المحتوى الإباحي المزيف أو أدوات المراقبة الخفية. وفي الولايات المتحدة تتزايد الدعوات لتوحيد التشريعات بين الولايات لمواجهة التباين القانوني الذي تستغله بعض الشركات الناشئة. أما في آسيا فقد بدأت دول مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية بتطوير بروتوكولات تقنية لرصد المحتوى المزيف قبل انتشاره، بالتعاون مع شركات التكنولوجيا الكبرى. هذه التحركات تشير إلى أن المواجهة لم تعد محلية أو رد فعل على حادثة بعينها، بل أصبحت جزءًا من سباق عالمي لصياغة قواعد اللعبة قبل أن تفرضها الشركات العملاقة بحكم الأمر الواقع. وفي هذا السباق تمثل أستراليا نموذجًا لدولة تحاول الموازنة بين الابتكار وحماية المجتمع، مدركة أن غياب الضوابط قد يحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة تقدم إلى سلاح إساءة يصعب احتواؤه لاحقًا.
إن المعركة ضد “التزييف العميق” الإباحي وأشكال التحرش الرقمي ليست مجرد قضية تشريعية أو تقنية، بل هي معركة وعي مجتمعي بالدرجة الأولى. فالقوانين مهما بلغت صرامتها، والتقنيات مهما تطورت، لن تكون كافية إذا لم يصاحبها إدراك جماعي لخطورة هذه الممارسات ورفض قاطع لتطبيعها أو تبريرها. التجارب الدولية تثبت أن مواجهة هذه الظواهر تتطلب جبهة موحدة: حكومات تضع الأطر القانونية وشركات تلتزم بالمسؤولية الأخلاقية ومجتمعات ترفع سقف الحماية الذاتية عبر التربية الرقمية والنقد الواعي للمحتوى.
وفي النهاية، فإن نجاح أستراليا أو غيرها في هذه المواجهة لن يقاس فقط بعدد التطبيقات المحظورة أو القضايا المرفوعة، بل بقدرتها على خلق بيئة رقمية آمنة تحترم كرامة الإنسان، وتعيد للفضاء الافتراضي دوره كأداة تواصل ومعرفة، لا كساحة استغلال وانتهاك.
العرب