حين ودعتنا المدينة: الحكايات الأخيرة قبل النزوح

يرتجف القلب كلما مرت ذكرى قديمة، وصورة عامرة بالأمل والنور، وتنهمر الدموع لا إراديًا وتسقط حارقة بقدر ما مرّ من ألم في حضرة الموت المتوقع. فما يكون من المرء إلا التمسك بالماضي كحاجز دفاعي أمام نوبة جنون قد تصيبه أمام المقتلة، وصموده أمام آلة الحرب بما تشمل من دماء وركام وانفجارات وخوف لا ينتهي.

أمام الحرب التي تُشن على غزة، التي يصفها أولادها بالعظيمة، ماذا يعني أن يرى الغزي مدينته تسقط أمام عينيه وهو يُسحق فيها دون رحمة؟ وماذا يعني أن يكون مضطرًا ترك بيته لأن البقاء فيه يعني الموت أو الإصابة؟ كيف يمكن أن يفقد الأهل والبيت والحارة والشارع ومعالم المدينة ويبقى محافظًا على صحته العقلية؟

نغم كراجة: وين أنا ليش صار هيك

نغم كراجة.jpg

هنا نحكي مع غزيات ألمهن انهيار المدينة ويعز عليهن فراقها، يستوحشن في طرقات غزة التي لم تعد تشبه وجهها الحقيقي، يبحثن عن ذكرياتهن فيها، كل منهن تفتح قلبها لتبكي بكاء المقهور الذي فقد أمنه وسكينته. لا يفعل الغزي طوال عامين سوى طرح الأسئلة، وهو يشهد لفظ المدينة لأنفاسها الأخيرة، ويقاوم حتى الرمق الأخير حتى لا يسقط في ذهنه شموخها وعلياءها، فلا يود أن يرى غزة الجديدة المدمرة الجرداء من بساتين الورود والخضار.

الشابة نغم كراجة، كانت من أولئك الذين تمسكوا في شمال غزة حتى الرمق الأخير، عاشت الجحيم وحوصرت أكثر من مرة ولم تخضع.

تقول نغم لبنفسج: “فكرة النزوح من غزة نحو الجنوب مرعبة، لم أفعلها في المرة الأولى، ويعز علي أن أفعلها الآن، لكن أخاف على أطفالي الثلاثة من فكرة الفقد”.

مهما دُمرت غزة، سيظل راسخًا في ذهنها أبراج المدينة، وأشجارها، وصوت الباعة، وضجيج السيارات، وهذا ما تعتبره انتصارًا في مفهومها، وما دون ذلك عبث. 

تنوي نغم نصب خيمتها حال النزوح على شاطئ بحر غرب غزة، ولن تنزح للجنوب إلا إن اشتدت الأوضاع وكانت على حافة الموت. تضيف بصوت منهك: “لا أستوعب فكرة تدمير كل شيء، دمرت مدرستي وقصر الباشا المجاور لها ويعد معلمًا تاريخيًا عظيمًا في عيني، شارع بيتي خلف سوق البسطات في الشجاعية أصبح ركامًا. خلال الهدنة عدت لغرفة تبقت من البيت، وكلما خرجت أصابتني نوبة قهر لا تهدأ”. 

منذ أن فارقت الشجاعية وخرجت نحو غزة المدينة، تشعر نغم بالاغتراب. تود العودة فلا يروق لها شعور المغادرة، وكلما رأت بائع فلافل تذكرت جارهم الذي لديه مطعم على ناصية الشجاعية، عمره ۴۰ عامًا، ورثه عن أجداده. لكن الشارع والمطعم والرجل لم يعد موجودًا، فقد قتلته “إسرائيل” في حزام ناري على حي الشجاعية ليستشهد مع كل العائلة ويبقى حتى اليوم تحت أنقاض منزله.

تخاف نغم أن تنسى الذكريات القديمة، شكل البحر الذي فارقته لمدة عام كامل، لم تره، حتى التقيا في نوفمبر ۲۰۲۴، بكت لحظة اللقاء وشعرت بارتعاشة لم تعهدها من قبل، لكنها قاطعت البحر منذ مجزرة الباقة على شاطئ غزة، إذ تخاف أن تذهب إلى الكافيهات المطلة على البحر فيتم استهدافها.

روند التتر: شوارع غزة الفارغة تؤلمني

روند التتر.jpg

لا يختلف حال روند التتر عن نغم؛ فانهيار المدينة أصابها بخوف أن ينهار كل شيء، وأن يسقط المتبقي من معالم غزة. تقول بصوت مبحوح: “الآن أنا ما زلت هنا في غزة، أحاول أن أتشبث بما تبقى من المدينة والحياة، والتلويح باحتلال غزة وطردنا منها يذبح القلب. غزة بالنسبة لنا ليست مجرد مكان، هي الذاكرة والبيت والناس، أشعر بخوف عميق، لكن في الوقت نفسه هناك تناقض مؤلم: خوف من فقدان المدينة، وإصرار على أن تبقى لنا مهما حدث”.

تكمل: “كل ركن في غزة له ذكرى، لكن أكثر ما يقهرني هو تدمير الشوارع القديمة التي حملت خطواتنا، المدارس التي درسنا فيها، المقاهي، الأسواق التي كان لها روح خاصة، وأقسى ما يؤلم أن ترى مكانًا كان مليئًا بالضحكات يتحول إلى ركام وصمت”.

شوارع غزة الفارغة الآن تؤلمني أكثر من دمارها، ولحظة سقوط برج أمام عيني هي كأني أرى حياتي تنهار قطعة قطعة، أشعر أن المدينة تفقد ملامحها، وأن كل برج ينهار يأخذ معه ذاكرة وصوتًا ووجوهًا…

وعن انهيار الأبراج في غزة وتدمير الشوارع، تعقب روند: “شوارع غزة الفارغة الآن تؤلمني أكثر من دمارها، ولحظة سقوط برج أمام عيني هي كأني أرى حياتي تنهار قطعة قطعة، أشعر أن المدينة تفقد ملامحها، وأن كل برج ينهار يأخذ معه ذاكرة وصوتًا ووجوهًا”.

تخاف روند من خيانة الذكريات، أن تنسى شكل الشوارع القديم وصوت الباعة، وتردف: “البقاء يعني المخاطرة بالحياة، والرحيل يعني اقتلاع الروح. الفكرة نفسها ترهقني، كيف أترك مدينة عشت فيها كل شيء؟ لكن في الوقت نفسه أريد أن أبقى على قيد الحياة مع ابني الذي لم يلد بعد، كل قرار فيه وجع، وكلاهما مرّ”.

الآن، كل ما تريده روند أن تعود ليوم قبل الإبادة، لتمشي في شوارع عمر المختار، تشتري القهوة وتحتسيها على كورنيش غزة، أن يعود العيد ونداء الله أكبر في صبيحة عيد الله.

سماح شاهين: لا أريد تجربة الاغتراب داخل مدينتي

سماح شاهين.jpg

سماح شاهين، من سكان المخابرات غرب مدينة غزة، قضت العامين تتنقل من مكان لآخر، يغمرها الخوف من احتلال غزة للأبد. تقول لبنفسج: “تهديدنا بسلب غزة، كأنهم وضعوا سكينًا على رقابنا، يملأني القهر والحزن، كلما أفرغ شارع من قاطنيه، ولا أستوعب فكرة الفراق عن المدينة الأعز”.

“عند عودتي ودخولي خط الشمال كنت خائفة أن أكون نسيت شكل الشوارع، وجدتها مدمرة ولكن بقيت بعض معالمها، فقلت عادت لنا غزة، والآن لا أريد أن أخوض تجربة الاغتراب داخل حدود غزة”.

عندما عادت سماح إلى شمال غزة بعد نزوح دام عام في الجنوب، شعرت وكأن الروح دبت فيها، وتضيف: “عند عودتي ودخولي خط الشمال كنت خائفة أن أكون نسيت شكل الشوارع، وجدتها مدمرة ولكن بقيت بعض معالمها، فقلت عادت لنا غزة، والآن لا أريد أن أخوض تجربة الاغتراب داخل حدود غزة”.

الآن، تشهد سماح انهيار الأبراج السكنية التي تعد بالنسبة للغزيين معالم عريقة، كل برج له اسم وحكاية، كل شارع له قصة يعرفها الغزيون جميعًا، وما أقسى أن يشهد المرء اختفاء مدينته أمام ناظريه.

بنفسج