اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
عزيزتي، أُذّكر نفسي يوميًا بأن الإنسان ينتصر في معاركه الصغيرة ضد نفسه بالنقاط لا بالضربات القاضية، وأن التحدي الحقيقي في مسألة الصبر ليس الوصول بل “الاستمرار”، وأن المعجزة الحقيقية هي معجزة “المقاومة”، الاستمرار في مقاومة الظلم والخذلان، الاستمرار في الحياة رغم امتلائها بالهزائم والفُجر والرعب، معجزة مقاومة الخيبات واليأس، مؤخرًا تيقنتُ بأن “الاستمرار” رغبةً في النجاة في حد ذاته عمل بطولي!
عزيزتي، رأيت أمام عيني الكذب وهو في أبهى حُلة، رأيته يُسيطر، يتسلل ويمضي بخفة، رأيته يسرق ويفتك ويهرب وهو يرتدي قُبعة الفضيلة، وأنا مكبلة بلا حول وبلا أدلة، رأيتُ الجَمعَ يُفلت يده، ويغير جلده، رأيتُ بشاعة الأخلاق ودونها، طمس المبادىء وهوانها، رأيت أشباحًا تتخذُ مناهج في التلون والتحجج لم يُسمع بها من قبل، في زمن المكبلة أيديهم يصنعون الكثير والكثير، من القادرة أيديهم!
عزيزتي، من أبحروا عميقًا بسفن الإنسانية، لقوا حتفهم أمام ذاك الجبل الجليدي، فما بدا منه لم يكن كافيًا لكشف حقيقته، يجذب برقةٍ، فيخدع، ثم يقتل بشراسة، وما يَكمُن تحت سطح السلوك البشري والهياكل النفسية الخفية، كان جحيمًا فوق الماء، اليوم أُعلِنت أمامي الحقائق مجردة، وما كنا نتحصن به ونحسبه محطات آمنة، لم يكن سوى ثغرات وفخاخ أوقعت بنا. كيف ينجو المرء من نفسه وفكره! كيف ينتصر على الذكرى، وكيف ينسى!، أُقاتل أمرًا عظيمًا يحدُث ها هنا بقاعِ قلبي، أقاتل الولاء الخفي، كم إن الإخلاص لعنة!
اليوم أكتب لكِ رسالةً طويلة قد تصل أو لا تصل، في معركةٍ يستوي فيها اللجوء والتشرد، الوجود والعدم، في زمنٍ يشتد فيه الصراع على زعامة العالم، من بقعة باردة على هذه الأرض إلى أشد بقاع العالم ظُلمًا وقَهرًا، ومن قلبٍ ضائع شريد يود لكِ السلوان والعودة، أُحدثكِ أنا.
عزيزتي، إبصارُ الأشياءِ على حقيقتِها انتصارٌ، لكنّه مؤلمٌ؛ مؤلمٌ للغاية، والهزيمة أمام مواضع الخِسة والخيانة والخداع قاتلة، تنبض قهرًا يأكلُ قلب صاحبَه حسرةً على كلٍّ أملٍ كاذبٍ، و كلِّ جهدٍ ضائعٍ. عزيزتي، حاولتُ ألا أبكي، لكنني بكيت! بكيت على الوطن، وثقل الأيام، وفقد الرفاق، و وداع الأقارب والأحبة، وبكيتُ وبكيتُ وبكيتُ كثيراً، و يراودني دائماً سؤالٌ كاد يقتلني، لماذا؟ لماذا في اللحظات الحاسمة، لماذا في النبضات الفاصلة، لماذا في القشات القاصمة، ولماذا يختار البشر الطرق الأفتك والأوقات الأبشع في النهب والتشويه والإذلال!
عزيزتي، الذين خلفهم البطش والطغيان وأفلتهم ليتذكروا المشهد طوال حياتهم، أين ذهبت قلوبهم؟ حناجرهم؟ رسائلهم؟ كيف حال أنفاسهم اللاهثة؟ مساكين حتى في أحلامهم لا يصلون! من مرارة الإبادات، حلق المنتحرون، مقتحمو الحواجز والمخاوف، فاتحو عتمة النفق ببرق عبورهم، قديسونا، الذين لم تسعهم الحياة، ففتحوا فسحة في الموت، لم يستطيعوا في هذا العالم الظالم أن يملكوا حياة، فملكوا موتًا.
عزيزتي، أمضي فقط لأن الأيام تدفعني، وأساير الحياة ولا تسير معي، لا أشعر بشيء على الإطلاق، في لحظة كنت أود فيها المقاتلة حتى آخر رمق من أجل معاني شُوهت فقدت أنا القدرة على تمييزها، معاني لايمكنُنَا المراوغةَ بها أو اقحامَها في سراديبِ المناورة والضلال .معاني حاربت بحماقة وثقة طائشة على مسرحِ الحياةِ لكنها ما لبثت حتى ماتت إثرَ رصاصتها الأولى في حربٍ تبرأت منها قلاعها وخانها من معها في نفس الخندق بطعناتٍ أكثر إستهدافاً ومرارة أكثر استدامة، يخونُني ترفُ التعبيرِ مرّةً أُخرى أو ربما مراتٍ أُخرى. ما أردت قوله أنه لا يمكنُ أن نخيطَ جراحَنا بالمزيدِ من الإبرِ المسمومةِ يكفي أن طالتها يد التجبر والغلظة، وأضحى مداوةُ هذه الجروح أمرًا مستحيلًا و البناءُ فوقَ الخرابٍ، خراب.
عزيزتي، لدي حديث طويل يُسرد عما يمكن أن يوصم به صاحب الرأي المختلف في هذا الزمن الرديء إذا أعلنه، ولاسيما إذا كان مستضعفًا في وسط مجموعٍ مُهيمنٍ هشٍ في نفسه – لا تنقصه السيطرة قدر ما ينقصه الضمير -، كلامٌ كثير عن الخسارات الفادحة المُحتملة في مقابل أن يحتفظ المرء بولائه لقيمه والتصريح بها، حتى يكاد يتشكك في معياره الأخلاقي وفي أصابع يده، كلامٌ كثير عن قدرة الجمع الفاسد إلحاق الضرر بأحد الصادحين باختلافهم، وعن قدرة الصوت الخبيث الماكر تعكير الحقيقة وتلوثيها، المشكلة لم تكمن في إدراك العبث، بل في محاولة التعامل معه.
عزيزتي ريم، من أختكِ الصغيرة لكِ ألف سلامٍ وقبلة ورسالة قصيرة كُتِبَ فيها ” أشتاق لكِ” كلّما لمحتُ خبرًا إعلاميًا عن الوضع الأمني شمالاً أو جنوبًا، كلما لمحت عاجل على الشاشات، كلما هاجمتني ذكرياتنا شرقًا وغربًا، في صوت نداء وحضنها العميق الذي يعادل أربعة أحضان، لكِ منهن واحدًا، ولياسمين واحداً ولأمونة واحداً ولإبراهيم كل أحضان العالم الباقية، أتذكرك في ابتسامة خالتي حين أضحك فتضحك، وصور عمي حين أوصى علي، ما أريد الختام به هو أنني أحبّكِ جدًا، أحبّكِ قدر حبّ هذا العالم المنافق للقوة والسطوة والخداع، وقدر حبي أنا للإخلاص والآمان والولاء والإتساع، لكِ صدقك وودك الذي لم أتمنّه لأحد غيرك.
المصدر: بنفسج