شهداء غزة: من الصحافة إلى الطب… كيف خلّد الأبطال ذاكرة الوطن؟

في بلادٍ تتجدّد جراحها كل يوم، لا يتحوّل الشهداء إلى أرقام، ولا تغيب وجوههم خلف ضجيج الحرب. إنهم الذاكرة التي تكتب معنى الصمود، والأثر الذي يترك في الناس ما يعجز الزمن عن محوه. من بين هؤلاء، برزت أسماء صنعت حضورًا يتجاوز غيابها: مريم أبو دقّة، أنس الشريف، عدنان البرش، رفعت العرعير، محاسن الخطيب، هبة أبو ندى. وجوه لم تكتفِ بأن تعيش تحت النار، بل حملت رسائلها إلى العالم، وذهبت بأصواتها أبعد مما كان متاحًا لها وهي على قيد الحياة.
شهداء غزة

مريم أبو دقّة… من شهداء غزة، الصحافية التي وقفت بين الحقيقة والرماد

الشهيدة مريم ابو دقة

“أمي كانت تقول: ما دام فينا نفس، فيعني لسه عنا وطن” لم تكن مريم أبو دقّة مجرد صحافية تحمل كاميرتها بحثًا عن لقطة. كانت ابنة الميدان، تنحني على وجع الناس، وتعيد صياغة أصواتهم بطريقة تُشعر المتلقي بأن غزة ليست حدثًا، بل حياة كاملة تنبض رغم القصف. عُرفت مريم بإنسانيتها قبل مهنيتها؛ كانت تضع قلبها قبل قلمها، وتصرّ على أن الحكاية لا تُروى من بعيد. كانت تردد: “نحن لا نغادر الوطن… نحن نكبر معه، حتى لو صغر حجم الأرض تحت أقدامنا”.

في تقاريرها، بدت مريم كمن يحمل ذاكرة من سبقوها، ويكتب بعينين لا تعرفان الخوف، لكنها تعرفان معنى الحزن ومعنى الحياة. تركت خلفها أرشيفًا إنسانيًا، لا يُقرأ بوصفه عملًا صحافيًا فقط، بل شاهدًا على ما يحدث حين تصرّ امرأة على أن تضع الحقيقة فوق كل شيء.

أنس الشريف… كاميرا تضيء العتمة

الشهيد أنس الشريف

كان أنس الشريف واحدًا من أبرز الأصوات الإعلامية الميدانية في غزة، شابًا يحمل كاميرته كما يحمل المقاتل سلاحه. في لحظات السقوط والدمار، كان صوته ثابتًا، يشرح للعالم مشاهد ثقيلة بلغة بسيطة، دون أن يسمح للخوف بأن يهزم إيقاعه. كان يقول دائمًا: “إذا انقطع البث… لا تنسوا أن القصة لم تنتهِ، هناك دائمًا من يكملها من بعدنا”.

أثبت أنس أن الميدان ليس مساحة للظهور، بل امتحان للرسالة. كان يقترب من الناس أكثر مما يقترب من الصورة، وظلّ صادقًا حتى اللحظة الأخيرة، واضعًا مهنته فوق كل الحسابات. ترك وراءه دربًا سيكمله آخرون، ودليلًا جديدًا على أن الصحافة في فلسطين ليست مهنة، بل شهادة حياة.

عدنان البرش… الطبيب الذي أصرّ أن يبقى آخر من يغادر

الشهيد عدنان الشريف

“نحن لا نختار أن نكون أطباء حرب… لكننا نُجبَر أن ننقذ ما يمكن إنقاذه” يعرفه أبناء غزة بأنه طبيب الميدان، الرجل الذي كان يدخل غرف العمليات ولا يخرج إلا وقد حاول كل شيء لإنقاذ من يصله. برز اسم عدنان البرش كأيقونة طبية وإنسانية، كان يرفض مغادرة المستشفى حتى في أصعب الظروف، ويصرّ على أن واجبه يحتم عليه البقاء إلى جانب المصابين، حتى حين يتجاوز عددهم قدرة أي مشرط على اللحاق بهم. كان يردد لطلابه ولزملائه: “طبيب لا يرى المرضى أبناءه… لا يرى الحقيقة كاملة.”

هذا الإيمان جعله حاضرًا في كل مكان يحتاج إلى يدٍ خبيرة وصدرٍ رحيم. سيرته و سیرة شهداء غزة، لا تُختصر في مهنته، بل في نظرته للإنسان، وفي كيف تعامل مع الخوف كعابر طريق، لا كمصير. ترك عدنان أثرًا خالدًا في كل مستشفى ومساحة ضوء، وأثبت أن إنقاذ الحياة هو أعلى درجات المقاومة، وراح شهيدًا. 

هبة أبو ندى… الشاعرة التي رأت غزة بعينين من نور

الشهيدة هبة أبو ندى

“إذا متنا اعلموا أننا راضون وثابتون وبلغوا عنا أننا أصحاب حق…” لم تكن هبة أبو ندى صورة تقليدية للشهيدة أو الكاتبة. كانت صوتًا أدبيًا يكتب جمال اللغة داخل أقسى الظروف. شاعرة وروائية حملت في نصوصها ملامح غزة بكل تناقضاتها: القرب من الموت، والحنين، والأمومة، والحياة التي تخترق الجدار مهما كان سميكًا.

من أقوالها التي تحوّلت إلى رمز: “ولا يمشون للأحلام ليلًا… لأن الموت نحو البيت يمشي”. كتبت هبة كأنها تحفر في الروح، وتترك للقارئ نوافذ من الضوء وسط كل الظلام. لغتها ناعمة، لكن رسالتها حادة: إن الإنسان قادر على أن يصنع جماله الخاص حتى فوق ركام العالم. بقيت هبة صوتًا أدبيًا متفرّدًا، ووجهًا لا ينسى في الذاكرة الثقافية الفلسطينية.

محاسن الخطيب… الكاتبة التي جعلت من الألم نافذة على الوعي

الشهيدة محاسن الخطيب

وقفت محاسن الخطيب طوال مسيرتها أمام سؤال واحد: كيف يمكن للإنسان أن يحمي ذاكرته من التلاشي وسط هذا القدر من العصف؟ رسمت محاسن عن غزة بحسّ إنساني عميق، مستخدمة ريشتها الأنيقة لتوثّق لحظات الضوء في حياة الناس، وتعيد تشكيل الحكاية بطريقة تمنح إمكانية الفهم والتعاطف.

لم تكن تبحث عن سبق أو شهرة، بل شاهدة تعرف أن الفن يمكن أن تكون مسندًا في لحظةٍ ينهار فيها كل شيء. كانت تقول دائمًا: “غزة ليست ضحية… غزة شاهدة”. وهذا القول لم يكن مجرد جملة، بل رؤية كاملة تعاملت من خلالها مع القصص التي روتها والوجوه التي التقت بها واللوحات التاي رسمتها. تركت محاسن وراءها إرثًا يفيض حكمة ورهافة، ورسالة تؤكد أن الفن يمكن أن تكون فعلًا من أفعال النجاة.

رفعت العرعير… المعلّم الذي صنع من اللغة بيتًا لأهله

الشهيد رفعت العرعير

“إذا كان لا بدّ أن أموت… فلتعش أنت لتروي حكايتي” أما رفعت العرعير، فقد كان معلّمًا يعرف أن دوره يتجاوز حدود الصف والكتاب. حمل عشقًا استثنائيًا للّغة الإنجليزية والأدب، وحوّل هذا العشق إلى جسر يصل طلاب غزة بالعالم الأوسع. لم يتعامل رفعت مع التعليم بوصفه مهنة، بل كمسؤولية تجاه جيل كامل يعيش تحت ضغط يومي، فكان يقدّم لهم من المعرفة ما يساعدهم على بناء حياة أرحب من محيطهم الضيق.

يؤمن رفعت بأن اللغة تمنح الإنسان عالمًا جديدًا، وكان يقول: “نحن لا ندرّس الكلمات… نحن ندرّس القدرة على الحلم.” ترك رفعت أثرًا كبيرًا في قلوب طلابه وزملائه، وامتد تأثيره خارج غزة عبر مبادرات تعليمية أطلقها وساهم فيها، فصار اسمه جزءًا من الذاكرة الثقافية والتربوية الفلسطينية، معلّمًا بقي حيًّا بما تركه في نفوس من تعلّموا على يديه.

ما يجمع شهداء غزة، ليس فقط أنهم رحلوا في زمن واحد، بل أنهم ينتمون إلى جيل يؤمن بأن الشهادة ليست نهاية السيرة، بل بدايتها. كل واحد منهم حمل شيئًا من غزة وأعاده إلى العالم: مريم حملت القصص، أنس حمل الصوت، عدنان حمل الحياة، إسماعيل حمل الذاكرة، وهبة حملت اللغة، ومحاسن الريشة، ورفلعت القصة والحكاية.

في غيابهم، يبقى حضورهم أكثر وضوحًا. فهؤلاء لم يكتبوا كلمات عابرة، ولم يعملوا في مهن عادية، بل تركوا أثرًا يتجاوز مواقعهم ووظائفهم. تركوا ما يشبه خارطة طريق تقول إن الإنسان قادر على أن يصنع نورًا في قلب العتمة، وأن الرسائل التي تُكتب بصدق، تبقى مهما بدا العالم مثقلًا بالغياب.

بنفسج