صمود لا ينكسر.. رجال غزة يقفون شامخين رغم الدمار

قهر لا يُقال: رجال غزة واقفون رغم كل شيءفي غزة، القهر لا يُروى، بل يُخزّن في العيون، في ملامح الرجال الذين فقدوا كل شيء وبقوا واقفين. في شوارعها المدمرة، لا ترى فقط الحجارة والرماد، بل وجوهًا أطفأها الألم، رجالًا كان لهم بيوت تعبوا في بنائها حجرًا فوق حجر، غرفة فوق غرفة، عمرًا فوق عمر، ثم جاءت الحرب ومسحت كل ذلك في لحظة.
صمود رجال غزة

رجل بنى بيته بيده شهورًا وسنوات، اقتطع من قوته ليُكمل البلاط، وسهر الليالي ليركب الأبواب بيده، وظل يحلم أن يزف ابنه فيه، ويُصلي فيه فجر الجمعة. اليوم يقف أمام ركامه كمن وقف أمام قبر مفتوح بلا وداع، لا يجد حتى صورة معلقة على الحائط يأخذها معه، ولا قطعة أثاث يسند ظهره عليها. كل شيء تلاشى، إلا القهر.

قهر الرجال في غزة ليس فقط دمار المنازل أو فقدان الأحبة، بل أن تُجبر على أن تبتسم وأنت محطم، أن تُطالب أن تكون قويًا وأنت تنزف من الداخل، أن تتحمل نظرات أبنائك وهم ينتظرون شيئًا لا تملكه. هو أن تصلي لله أن يحمي أبناءك، ثم تعود وتصلي أن يحفظ ما تبقى منهم بعد الغارة القادمة.

وهناك من كان له ستة من الأبناء، شباب كأنهم أعمدة البيت، ضحكاتهم تملأ الزوايا، وأحلامهم تملأ قلبه. في لحظة واحدة، انتهى كل شيء. قُصفوا، ولم تبقَ إلا صور على جدران البقاء. ترى الأب يمشي بعدهم، لا يصرخ، لا يبكي، بل يسكت لأن الألم تجاوز اللغة. كيف يُعزّى من دُفن قلبه كله دفعة واحدة؟ من يحمل بعدهم اسمه، ومن يُناديه بـ “أبي”؟

وفي كل صباح، يخرج رجل آخر، يحمل في قلبه خجل السؤال، لكنه يُجبر نفسه على الوقوف في طابور المساعدات، لعلّه يجد شيئًا يسد به رمق أطفاله. يحمل روحه على كفّه، وكرامته في جيبه المثقوب. يعود غالبًا بلا شيء، ويجلس أمام أطفاله يتظاهر بالقوة، يقول: “إن شاء الله بكرا خير”، بينما داخله يصيح: إلى متى؟ إلى متى نظل نحمل الحياة على ظهورنا كأنها عار؟

قهر الرجال في غزة ليس فقط دمار المنازل أو فقدان الأحبة، بل أن تُجبر على أن تبتسم وأنت محطم، أن تُطالب أن تكون قويًا وأنت تنزف من الداخل، أن تتحمل نظرات أبنائك وهم ينتظرون شيئًا لا تملكه. هو أن تصلي لله أن يحمي أبناءك، ثم تعود وتصلي أن يحفظ ما تبقى منهم بعد الغارة القادمة.

لكن رغم كل ذلك، فإن هذا القهر لا يُميت الروح، بل يُعيد تشكيلها. الرجل في غزة لا ينكسر، بل يتحوّل. يتحول من ضحية إلى بطل لا يعرفه العالم. لا يُكرَّم في الإعلام، ولا يُكتب اسمه في الأخبار، لكن يكفي أن تقول “رجل من غزة”، ليعرف العالم كله أنك تتحدث عن بطل حقيقي.

هذا القهر، رغم وجعه، هو شهادة صمود. هو العلامة الفارقة التي تقول: هؤلاء لا يُهزمون. هؤلاء إن سقط بيتهم، بنوه من جديد. إن فُقد أبناؤهم، أنجبوا أحلامًا جديدة. إن جاعوا، اقتسموا الرغيف. وإن صمتوا، كان صمتهم أعلى من كل خطاب.

لأجل كل رجل في غزة يحمل وجعه كأنه وسام… لأجل من بقي بعد كل شيء واقفًا… لأجل من لم تُهزم روحه رغم أن الحرب سلبته كل شيء… اكتبوا عنهم، لا لتُواسوهم، بل لتتعلموا منهم: كيف يكون الصبر رجولة، وكيف يكون القهر دليل عظمة، وكيف تصنع غزة رجالًا لا يُقهرون. من قلب غزة. لأجل كل رجل قهرته الحرب، ولم تقهره الحياة.

بنفسج