قصة نجاح ملهمة: فرح الطيطي… من مخيم الفوار إلى منصات التتويج

في مخيمٍ فلسطيني تحاصره القيود وتحدّه جغرافيا اللجوء، وُلدت فكرة علمية قلبت موازين البناء التقليدي. فمن بين جدران مخيم الفوار جنوب مدينة الخليل، خرجت الفتاة الفلسطينية فرح الطيطي، تحمل في عقلها معادلات، وفي قلبها وطن.

فرح الطيطي ابنة الـ۲۱ ربيعًا، ليست مجرد طالبة في الكيمياء الطبية بجامعة القدس– أبو ديس، بل باحثة صاعدة أعادت التفكير في أساسات البناء… وخرجت بـ”خرسانة جديدة”، لا تُثقل الأرض ولا تُنهك الإنسان.

في مؤتمر الريادة والابتكار PSSF EXPO بجامعة بيرزيت، فاز مشروع فرح “Eco-Friendly Lightweight Insulating Concrete” بالمركز الأول بين نحو ۶۰ مشروعًا، مقدّمًا نموذجًا عمليًا لخرسانة أخف وزنًا، أكثر مقاومة، وعازلة للصوت والحرارة، وصديقة للبيئة، مشروع لم يكن مجرد خلطة كيميائية، بل خلاصة سنوات من الشغف، والتحدي، والبحث عن حلول تبدأ من بيتها… من مهنة والدها.

عملت فرح على إعادة تركيب الخلطة الإسمنتية بإزالة بعض العناصر الثقيلة، واستبدالها بمواد أخف وزنًا ومُعاد تدويرها– تحديدًا مخلفات بوليمرية (Polymers). هذه الإضافة جعلت الخلطة أقل كثافة وأكثر مرونة واستدامة، دون أن تفقد قوتها.

تؤمن فرح -كما تقول في حديث خصت به “الحياة الجديدة”- أن مشروعها يمكن أن يكون نواة لثورة بناء خضراء فلسطينية، خاصة في ظل الحاجة لإعادة إعمار الكثير من المناطق المتضررة في غزة والضفة الفلسطينية، بوسائل أكثر استدامة، وما يجعل المشروع مميزًا، ليس فقط لنتائجه العلمية، بل قابليته للتطبيق في بيئات مثل فلسطين.

فرح الطيطي.. اسم يتلألأ في مختبرات الكيمياء

بعمر الحادية والعشرين، تقف فرح بثبات الباحثة ورقة الحلم. طالبة الكيمياء الطبية في جامعة القدس (أبو ديس) لا تسعى فقط للتفوق، بل تحلم أن تغيّر من الواقع شيئًا، أن تضع بصمتها حيث قلّ من يجرأون على الحلم.

وعن البدايات تقول: “بدأت رحلتي في البحث العلمي عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري. كنت طالبة مدرسة، لكن والدي ووالدتي آمنا بأفكاري البسيطة، وأخذا بيدي إلى المختبرات الجامعية لألتقي أساتذة ومهندسين. كنت أدون، ألاحظ، أتعلم… والنتيجة أنني لم أعد أرى في العلم مسارًا دراسيًا، بل حياة أعيشها”.

اليوم، تقف فرح على منصة التتويج، لكن في ذاكرتها كل ليلة سهر فيها والداها من أجل تعليم أبنائهم، وكل صباح واجه فيه والدها شقاء الحياة. “تتويجي ليس فرديًا، هو نتيجة تعب جماعي”، تقول فرح، بامتنان لأسرتها وجامعتها وكل معلميها.

من معاناة الطفولة إلى ابتكار علمي في البناء

نشأت فرح في مخيم الفوّار جنوب الخليل، حيث المعاناة اليومية من مضايقات الاحتلال واقع لا يُفارق تفاصيل الحياة. لكنّ هذا الواقع لم يزرع اليأس فيها، بل ألهمها. “كنت أتألم حين أرى والدي يعاني من ثقل العدة التي يعمل بها، ومن الحوادث التي يتعرض لها في خلاطات الباطون… من هنا بدأت أفكر: لماذا لا نصنع خلطة خرسانية أخف؟”، تقول فرح.

وجاءت الفكرة: تعديل تركيبة الخرسانة التقليدية لتكون أكثر خفّة وأعلى مقاومة. ليس هذا فحسب، بل دمجت فيها مواد معاد تدويرها من مخلفات البوليمرات، لتحقق عنصر الاستدامة البيئية وتقليل الأثر الصناعي، وهي بذلك تضرب أكثر من عصفور بحجر علمها.

ففي بحثها، أثبتت أن هذه الخلطة ليست فقط أخف وزنًا، بل أقوى من حيث مقاومة الضغط، وأكثر كفاءة في العزل الحراري والصوتي. ابتكارٌ يُمكن أن يُغيّر من شكل البناء في فلسطين والعالم.

ليست المرة الأولى… ولن تكون الأخيرة

ليست هذه الجائزة الأولى لفرح، فقد شاركت في المؤتمر العربي للمواهب والابتكارات في بغداد عام ۲۰۲۲، ومثّلت فلسطين هناك بكل فخر. كما خاضت مسابقات علمية منذ كانت طالبة مدرسة، دائمًا حاملةً راية “العلم مقاومة، وعن تلك المشاركات تقول فرح: “كل مؤتمر أشارك فيه هو فرصة للتطور، سواء فزت أم لم أفز. هذه المشاركات تصقل الشخصية، وتُعلّمنا كيف نعرض أفكارنا وندافع عنها. أنصح كل الطلبة ألا يكتفوا بالكتب، بل أن يفتحوا نوافذهم على العالم بالمؤتمرات والأنشطة العلمية”.

نحو المستقبل: حلم فرح أبعد من المسابقة

فرح اليوم لا تبحث فقط عن التكريم، بل عن الجهات التي تساعدها على تحويل بحثها إلى منتج قابل للتطبيق. تؤمن بأن في وطنها من يستطيع أن يدعمها، لوجستيًا أو ماديًا، وأن النجاح ليس حلمًا بعيدًا.

وتختم قائلة: “رغم الحصار والتضييقات، نحن نولد في قلوبنا وطن. نقاوم بالعلم، نُثبت وجودنا بالمعرفة، ونحمل فلسطين إلى المحافل لا إلى النسيان”.

في زمن التهجير والهدم، تأتي فرح الطيطي لتبني طوبة جديدة في صرح الوطن. خرسانة خفيفة في الوزن، لكنها ثقيلة في دلالتها: أن الفلسطيني لا يكتفي بالصمود، بل يُبدع من رحم الألم، ويصنع من المعاناة إنجازًا علميًا يُحتذى، لتشكلَ نموذجًا لجيل فلسطيني لا يعرف الانكسار، بل يصنع من المحن ابتكارات، ومن الخيام معامل، ومن الإسمنت حلمًا يضيء الغد.

الحياة الجديدة