اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تستيقظ نور شعث كل صباح لتفحص جسدها، ثم سرعان ما يخالجها شعور بالارتياح لمجرد أن توأميها لا يزالان داخل رحمها. أخبرها الطبيب أن كل يوم إضافي يزيد من فرصة أن تكون ولادتها طبيعية دون الحاجة إلى تدخل جراحي أو رعاية صحية خاصة بالمواليد الجدد، وهي رعاية قد لا تكون متاحة في قطاع غزة حاليا. لكن حتى بعد تفحص جسدها كل صباح والتأكد من أن حملها ما زال مستقرا، وأنها تقترب يوما بعد يوم من ولادة طبيعية وآمنة، لم تتمكن شعث من التخلص من شعور الخوف العميق والموجع الذي يخيّم عليها.
وسط الفوضى التي تكتنف القطاع، يلازم نور قلق مستمر من أن هذا الخوف الذي يكتسيها قد يتسرب إلى طفليها، ودائما ما تسأل نفسها عما إذا كانا يشعران بالخوف وهما بداخلها، وما إذا كان بإمكانهما الشعور ببكائها، أو ما إذا كان التوتر الذي يسري بجسدها سيتمخض عنه في نهاية المطاف ولادة مبكرة. قالت لي عبر رسالة نصية خلال إحدى فترات توفر الاتصال في غزة: “رغم أنني أعمل مستشارة نفسية، وعلى دراية تامة بكيفية التعامل مع الأفكار السلبية، لم تسفر مساعيَّ عن أي تحسُّن يُذكر في نفسيتي، إنني أرزح تحت وطأة ضغوطات طوال الوقت، وقد أخبرتُ زوجي أنني لا أشعر بالأمان إزاء فكرة الخضوع لعملية ولادة في قطاع غزة”.
وفقا لصندوق الأمم المتحدة للسكان (وهو وكالة دولية تعمل على تعزيز حقوق النساء فيما يتعلق بالصحة الإنجابية)*، فإن نور شعث تُعَدُّ واحدة فقط من بين ۵۰,۰۰۰ امرأة حامل في غزة. ومع النزوح الجماعي ونقص الضروريات الأساسية، باتت عمليات الولادة في غزة محفوفة بالمخاطر. وبالفعل، تلقى صندوق الأمم المتحدة للسكان تقارير عن نساء خضعن لعمليات قيصرية بدون مسكنات أو تخدير.
أخبرني دومينيك آلن، ممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان في الأراضي الفلسطينية، أن نحو ۱۸۰ امرأة تخضع يوميا لعمليات ولادة في قطاع غزة، وثمة أعداد مهولة منهن يلدن قبل الأوان بسبب الظروف العصيبة التي يكابدنها يوميا. وفي وجود كل هؤلاء الأطفال الخُدّج (المولودين قبل ميعادهم)، يُعَدُّ توفير الوقود للحاضنات أمرا في غاية الأهمية (وهو ما لا يتوفر في قطاع غزة منذ بداية الحرب)*. ومن المفترض خلال فترة وقف إطلاق النار أن المنظمات الطبية تمكنت من التفاوض لتوصيل بعض الوقود والإمدادات الأخرى إلى المستشفيات في الشمال. لكن مع ذلك، أخبرني آلن أنه تلقى معلومات من مستشفى الحلو -وهو المشفى الرئيسي للولادة في مدينة غزة- تُفيد بانهيار تام للرعاية الصحية التي تتلقاها الأم وطفلها منذ فترة الحمل، مرورا بفترة الولادة، ووصولا إلى فترة ما بعد الولادة.
في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، تواصلتُ مع نورا الزعيم، وهي أم لطفلين، من خلال صديق مشترك بيننا. كانت نورا قد أنجبت لتوّها طفلها الثاني، وفي يوم الولادة الموافق ۳۰ أكتوبر/تشرين الأول، أخبرتني أنها سمعت أن مسكنات الألم قد لا تكون متوفرة، لذلك لم تطلبها، وقُدِّر لها بعد ذلك أن تخوض غمار تجربة مرعبة. فأثناء العملية، تناهى إلى مسامعها صوت الغارات الجوية القريبة، وداهمها شعور بالقلق من احتمالية قصف المستشفى أيضا.
أثناء تلك الفترة، احتاجت الزعيم إلى غُرز جراحية لتقطيب جرحها، وفي ظروف كهذه لم تكن عملية التعافي سهلة على الإطلاق. وكونها أخصائية علاج طبيعي في عيادة متخصصة لعلاج مرضى الحروق، كان لديها بعض الخبرة في كيفية العناية بالجروح المُقطَّبة بالخيوط الجراحية، كما كانت تعلم أيضا أن ألمها المستمر هو على الأرجح علامة على الإصابة بالعدوى. وإن كان وضعها الحالي خطيرا، فالعودة إلى المستشفى في الأسابيع التالية للولادة أشد خطورة. وفي ۱۸ نوفمبر/تشرين الثاني، راسلتني لتصف لي حجم معاناتها في غزة قائلة: “إنني أعاني. جسدي مقطّب بخيوط جراحية، وأتألم بشدة، وبجانب ذلك كله لا يوجد ماء متاح للاستحمام ليساعدني قليلا في التئام الجرح ومنع انتشار العدوى”.
بعد الولادة، فرض الجيش الإسرائيلي على نورا وأهلها تهجيرا قسريا إلى جنوب غزة، حيث اضطروا إلى التكدس في شقة ضيقة مع أقاربهم. وفي ظروف كهذه، أُصيب الرضيع بالحمى، فذهبوا به إلى مشفى يعج باللاجئين، واشتروا له دواء من السوق السوداء عندما لم يتمكنوا من العثور على العلاج اللازم. يواصل زوجها سعيه متلمسا طريقه لساعات متواصلة للبحث عن مياه نظيفة وطعام ودواء للعائلة، وهو في سبيل الحصول عليها لا يكف عن المحاولة. أما في المنزل، تلجأ نورا إلى استخدام طرق مبتكرة لتهدئة طفلها الصغير خلال الأيام الطويلة من القصف المستمر، فعند سماع الانفجارات، تبدأ هي وأقاربها بالتصفيق والابتسام بينما يخبرون أطفالهم أن القنابل عبارة ألعاب نارية صاخبة. ومع ذلك، ما زالت هذه الأصوات تبث الرعب في قلوب الأطفال فيسدّون آذانهم عنها ويختبئون.
ومن مأساة إلى أخرى، ننتقل إلى أم ثالثة من غزة تُدعى أسماء الحايك، التي أنجبت أول طفل لها خلال حرب مايو/أيار ۲۰۲۱، ثم أنجبت مرة أخرى في أغسطس/آب الماضي. تخبرنا الحايك أنها تُهدئ ابنها الأكبر عن طريق التظاهر بأن أصوات القصف تصدر عن طيور كبيرة اعتراها شيء من الارتباك والحيرة. غير أنه في بعض الأحيان، تتبدل الأدوار، فما إن يراها الصغير وهي خائفة، حتى يذكِّرها بأن هذه الأصوات تصدر من الطيور في السماء. تحدثتْ معي الأمهات الثلاث -شعث، والزعيم، والحايك- عن محدودية الفرص المتاحة لأطفالهن في غزة، وعن الصدمات والضغوط النفسية التي وُلدوا في ظلها. لهذا سألتُ هؤلاء الأمهات: إذا أتيحت لهن الفرصة، فهل سيُفضِّلن الرحيل عن غزة؟ لكن الغريب أن جميعهن نطقن الإجابة ذاتها تقريبا، وهي باختصار أن غزة عالمهن الحقيقي، هناك حيث تقطن عائلاتهن وأصدقائهن، وتقبع وظائفهن.
على الجانب الآخر، أخبرتني الحايك أنها فكرت في محاولة الذهاب إلى مصر طوال فترة الحرب، لكن القلق عصف بقلبها لاحتمالية أن تُمنَع هي وعائلتها من العودة إلى غزة مرة أخرى إذا غادرت الآن. وتستمر الحايك في وصف معاناتها بقولها إن العيش في مأوى مؤقت في الجنوب كان صعبا بما فيه الكفاية: ” لذا كل ما أريده الآن هو منزلي، وأحلم دائما بالعودة إليه”.
في الوقت الحالي، أتمت نور شعث تقريبا شهرها السادس في الحمل. ومن المفترض أن خلال فترة وقف إطلاق النار دخلت بضع شاحنات تابعة للجمعيات الخيرية الطبية وصندوق الأمم المتحدة للسكان إلى قطاع غزة محملة بإمدادات الولادة الآمنة، وأدوية التخدير، وغيرها من الضروريات للرضع والأمهات. ويقدّر دومينيك آلن، ممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان في الأراضي الفلسطينية، أن المستشفيات لديها الآن ما يكفي من الإمدادات لدعم عمليات الولادة الأساسية والمعقدة خلال الشهر والنصف المقبلين. (وهي مجرد تقديرات قد لا تكون صحيحة في ظل القصف المستمر على قطاع غزة)*.
ورغم كل هذه الظروف العصيبة، ما زالت شعث ترى بصيصا من الأمل، لأن توأميها -لحُسن الحظ- لا يزالان يتحركان بداخلها. وحينما سألتها عما تحلم به لأطفالها في المستقبل، أخبرتني أنها لا تستطيع أن تتساءل عما عسى يتمخض عنه المستقبل، وكل ما تتمناه حاليا قبل أن تخلد إلى النوم في كل ليلة هو أن يأتي طفلاها إلى هذه الدنيا بأمان دون أن يمسهما شر.
المصدر : نساء FM