كوثر حسن.. أستاذة جامعية تعيد تاريخ النوبة ولغتها

الخروج من أرض الذهب، يشبه إلى حد كبير الخروج من الجنة، هذا ما حدث مع حسن النوبي وعائلته، الذي خرج في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي من بلاد النوبة حيث ولد ونشأ، ثم تزوج وأنجب، لكن ضيق الحال وقلة الفرص، كانت علة مغادرته لجنته السمراء، فاستقر في القاهرة، مع زوجة لا تعرف سوى اللغة النوبية، وأبناء في مراحل التعليم المختلفة، و"كوثر" الطفلة السمراء التي تشبه النهر، فتحمل الخير أينما مرت، في مدرستها أو الجامعة كطالبة ثم أستاذة، وأخيرا مقدمة للمحتوى النوبي الأشهر على مواقع التواصل الاجتماعي "دكتورة ع ما تفرج".

النوبة.. تاريخ شفاهي لم يروَ

قصص نوبية مختلفة ومتنوعة تحاكي التراث الجنوبي القديم، لا يعرفها الكثير من أهل مصر، ربما للابتعاد الجغرافي، وربما لاختلاف التقاليد والعادات، وغالبا لتباين اللغة.

تتعدد اللهجات في مصر بين لهجات الصعيد شماله وجنوبه، ولهجات الريف الأعلى والقرى، وأيضا لهجات محافظات البحر المختلفة باختلاف ألوانه، بين محافظات البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، ثم اللهجات البدوية باختلاف الصحاري، لكن تبقى اللغة النوبية هي الأكثر ندرة في مصر، ولا يجيدها سوى أهلها، الذين يحافظون عليها حفظهم لحياتهم، وهو ما فعلته الأستاذة الجامعية، كوثر حسن، عبر المحتوى النوبي الذي تقدمه على مواقع التواصل الاجتماعي.

كيف بدأت الفكرة؟

“كأستاذة جامعية كان تعاملي مع مواقع التواصل الاجتماعي محدودا في البداية، بحكم عملي مع مشاريع تخرج الطلاب وأعمالهم الفنية” تروي الدكتورة كوثر حسن للجزيرة نت، عن رحلتها مع صناعة المحتوى، التي بدأت من أفلام الطلبة ومشاريعهم في قسم الإعلام-كلية التربية النوعية بجامعة عين شمس، تظهر الأستاذة الجامعية مع طلابها، بضحكة صافية وروح طفلة، مع الوقت بدأت الدكتورة كوثر في تقديم محتوى نقدي لظواهر مجتمعية أو مواقف عامة، ولأن من الطبيعي أن يتساءل البعض عن كيف للأستاذة الجامعية أن تخلع ثوب الوقار والهيبة، قررت النوبية كوثر حسن أن تسارع بالجواب قبل أن يأتيها السؤال “من أجل ذلك كان الاسم الذي اخترته هو دكتورة على ما تفرج، وهو الأكثر تعبيرا عني، وعن شخصيتي الحقيقية بعيدا عن السمت التقليدي الذي تفرضه شخصية الأستاذ الجامعي”.

۴۷ عاما، هو عمر الدكتورة كوثر، ۵ سنوات فقط قضتهم في بلاد النوبة، ثم غابت عنها مع أسرتها في رحلة البحث عن الرزق، لكن النوبة لم تغب أبدا عن الفتاة الصغيرة، ظلت تلازمها ذكرياتها هناك، وظل لسان أمها الذي لم يعتد العربية أبدا يقف حاجزا بينها وبين نسيان لغتها الأم، لغة أهل النوبة “رغم بقاء أسرتنا في القاهرة لسنوات طويلة تجاوزت الـ۳۰ قبل رحيل أبي وأمي، فإن منزلنا لم يكن يتحدث إلا اللغة النوبية فأمي لا تجيد غيرها للتفاصيل اليومية ولم تكن تستخدم من العربية إلا كلمات قليلة تعلمتها من تجولها بالسوق”.

ناس النهر والحراس والويكة.. قصص نوبية بشكل جديد

فجأة أطلت النوبة لتكون سببا في تحول جديد في حياة الطفلة السمراء، وذلك حين قررت كوثر أن تقدم محتوى يقدم النوبة بشكل جديد كما لم يعرفها المصريون من قبل، فكانت حكايات قرية توشكى (غرب)، و الحرَّاس، وأساطير ناس النهر وعادات أهل النوبة وتفاصيل الحياة اليومية، كلها ترويها الأستاذة الجامعية كوثر حسن بلسان نوبي ممزوج بالعامية المصرية، فتسهل على متابعيها فهم ما ترويه من حكايات أبهرت المتابعين الذين تخطوا المليون في وقت قصير لم تتوقعه بنت النوبة الأربعينية.

المحتوى النوبي المستوحى من التراث القديم لأرض الذهب والذي تقدمه حسن، نال استحسان أهل النوبة أيضا فشاركها بعضهم من ذويها هناك في سرد قصص وأساطير قديمة لا تزال تحيا بينهم حتى الآن، تقول حسن للجزيرة نت “النوبة أرض منسية بأهلها وتراثها وتاريخها.. متى يحين موعد تسليط الضوء على هذه البقعة الغنية بالدراما والخيال، وكل ما ينقصها هو ناقل جيد لذلك التراث وإنتاج داعم لدراما مختلفة عن بقعة جديدة لا تزال بكرا، رغم حضارتها الضاربة في التاريخ”.

نجاح غير متوقع.. وفرحة جنوبية

ردود الفعل التي تتلقاها كوثر على كل ما تقدمه من محتوى تراثي نوبي، جعلها تشعر بأهمية أن تحفظ ذلك التراث وتعيده على مسامع أجيال جديدة، ابتعدت بحكم التكوين والنشأة عن أصولهم هناك “ما حفظ استمرار وجود النوبة رغم الأزمات المتلاحقة والتهجير، كان مفهوم الجماعة، في النوبة نحن وحدة واحدة وكيان واحد، لا قرارات فردية، الإسلام حين دخل إلى النوبة أسلمت النوبة جميعا في يوم واحد، وحين تقرر الجماعة أمرا، فهو ينفذ من أكبر شخص لأصغرنا، هذا هو ما جعل أهل النوبة مستمرين في جماعات حتى الآن، لا يتزوجون من خارجها ولا يمتنع أحد عن مشاركة أو تطوع من أجل الجميع”.

لكن مع الوقت، واختلفت الأجيال عن جيل مضى، ربما تتغير الأحوال، وتتبدل المواقف، لذا كان ما تفعله كوثر هو بمثابة إحياء للوعي الجمعي النوبي وحفظ لتراثها الشفاهي، الذي تخشى عليه كوثر من الاندثار.

المصدر : الجزيرة