ماذا بعد التوصيات الفرنسية لوقف العنف الجنسي في قطاع السينما والثقافة

ضمّنت لجنة تحقيق في العنف الجنسي في القطاع الثقافي، شكلتها الجمعية الوطنية الفرنسية (الغرفة السفلى في البرلمان) بطلب من الممثلة غوديث غودريش، تقريرها 86 توصية تهدف إلى وقف “آلة سحق المواهب.” ولاحظت رئيسة اللجنة ساندرين روسو في هذه الوثيقة التي نشرت الأربعاء استنادا إلى إفادات 350 شخصية من قطاعات السينما والوسائط السمعية والبصرية والعروض الأدائية أن “العنف المعنوي والجنسي والمتحيز جنسيا في عالم الثقافة منهجيّ ومتفشٍّ ومستمرّ.”

ودعت اللجنة، التي استمعت في ستة أشهر إلى ممثلين ومنتجين ووكلاء، إلى “إقرار مبدأ حظر” إضفاء الطابع الجنسي على ظهور القاصرين على الشاشة وإلى “تنظيم” اختبارات التمثيل التي “تحفل بالمخاطر،” من خلال اشتراط إجرائها في أماكن مهنية واستبعاد المشاهد العارية. وأوصت اللجنة، التي شكِّلت عقب الشكوى التي تقدمت بها الممثلة غوديث غودريش في مطلع عام ۲۰۲۴ ضد مخرجيْن بتهمة الاغتصاب عندما كانت قاصرا، بـ”توسيع الوجود الإلزامي لمسؤول عن الأطفال في كل الإنتاجات الفنية.”

وطالبت اللجنة بتنظيم المشاهد الحميمة من خلال فرض “بنود مفصلة في العقد” وإمكان استعانة الممثلين بمنسق متخصص ومدرب. وأوردت اللجنة في تقريرها تفاصيل عن اعتداءات جنسية في عدد من المؤسسات الثقافية. وفي تصريح أدلت به الأربعاء رأت الممثلة غوديث غودريش، واحدة من رائدات حركة “مي تو” في فرنسا، أن تقرير لجنة التحقيق “مرعب جدا.”

وقالت في حديث لإذاعة “فرانس إنفو”، “كنت أنتظر هذا التقرير (…) وهو مثير للإعجاب ومرعب جدا. لكنني لم أفاجأ لأنني لم أتوقع شيئا أفضل.” وأضافت أن “تقرير اللجنة يظهر أن المشكلة لا ترتبط على الإطلاق بعالم السينما فحسب، وأن السينما عائلة كبيرة يسود فيها سفاح القربى، وأن علاقات القوة وإساءة استخدام السلطة هي نفسها (…) الموجودة في الكنيسة وفي المدارس وسواها.” ودعت الوسط السياسي إلى استيعاب ما خلص إليه التقرير حتى “لا يقول أحد بعد اليوم: لم نكن نعرف.”

وأصبحت غودريش (۵۳ عاما) رأس حربة حركة “مي تو” في فرنسا بعد اتهامها المخرج الفرنسي بونوا جاكو الذي يكبرها بـ۲۵ عاما، والذي كانت تربطها به علاقة عندما كانت في الرابعة عشرة من العمر، باغتصابها. ووجهت اتهامات مماثلة إلى المخرج جاك دويون. ولا تزال التحقيقات جارية في القضيتين، بينما ينفي الرجلان هذه الاتهامات.

والتحرش ظاهرة مجتمعية قديمة وشأنها شأن مختلف المظاهر المرتبطة بسلوك البشر وحياتهم، تطورت مع تطور الحياة وطبيعة المجتمعات. في السابق لم يكن من السهل على الضحايا من النساء أن يكشفن عما تعرضن له إما لضغوط اجتماعية أو لعدم وجود من يسمعهن ويسمع صوتهن. لكن اليوم بفضل الثورة في عالم الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي تغيرت الصورة.

وإن كان البعض يرى في إثارة قضايا التحرش والاعتداء الجنسي مجرد إثارة إعلامية أو ترصدا للنجوم والمشاهير، فإنه لا يمكن في المقابل إنكار مثل هذه الظواهر التي لا تطال النساء فحسب، بل تمتد إلى القصر من الإناث والذكور، وتشمل الرجال والنساء وإن كان ذلك بتفاوت.

ويقر المتابعون بأن عالم السينما والإنتاج السينمائي تحكمه خفايا كثيرة قد لا تظهر للعيان، ولعل مسألة الاعتداء والاستغلال الجنسي من أبرز هذه الخفايا التي ظلت مسكوتا عنها لعقود، مثلما يحدث من انتهاكات خطيرة في بعض تجارب الأداء ويطويه الصمت، بينما تتطلب اليوم معالجة شاملة ترى القضية من زوايا مختلفة وتوسع نظرتها إلى مفهوم الاعتداء والاستغلال الجنسي.

وقد هزت فضائح التحرش الجنسي عرش هوليوود، عاصمة السينما الأميركية والعالمية، وفجرت عاصفة من الغضب المكبوت تجسّد في الشهرة التي اكتسبتها حملة “مي تو” التي تشجع ضحايا التحرش الجنسي في مختلف المجالات على الحديث وفضح المتحرشين، وإن لاقت هذه الحركة تأييدا واسعا في شتى أنحاء العالم فإنها أثارت أيضا انتقادات كثيرة خاصة مع ظهور بعض الادعاءات المفبركة واستغلال الحركة لنيل مكاسب خاصة والابتزاز علاوة على المغالاة أحيانا كثيرة في تناول قضايا التحرش وقصرها على النساء.

وتمثل المشاهد الفاضحة محل جدل دائما نظرا إلى دقة التعامل معها، وخاصة تلك التي يكون فيها أطفال قصر، لكن المفارقة أن المدافعين عن المشاهد الفاضحة من دعاة التحرر يقودون في الوقت نفسه حملات ضد التحرش الجنسي، ولو كان التحرش بالكلام، بينما يحولون هذه الظاهرة الخطيرة إلى تصورات انفعالية ذاتية قد لا تستقيم.

ومن شأن المتدخلين في الصناعة السينمائية بالاشتراك مع مختلف المكونات الثقافية والاجتماعية وحتى من قطاعات أخرى مثل علم النفس والقانون والتربية وغيرها، أن يصلوا إلى تحقيق إنتاج سينمائي وثقافي وفني محصن من ظواهر الاعتداء والتحرش، إذ تحتاج القضية إلى تعاون ورؤية شاملة تتجاوز البعد الاحتجاجي الغاضب الذي تخوضه الحركات النسوية، رغم أهميتها، والذي قد تكون له انعكاسات سلبية على مثل هذه المسألة الحساسة، التي سحقت الكثير من المواهب ودمرت حيوات الكثيرين.

وتفاءل الكثيرون بتوصيات الجمعية الوطنية الفرنسية لمجابهة ظاهرة الاعتداء الجنسي في قطاع الفنون والثقافة، معتبرين أنها ستكون منطلقا لتشريعات أخرى في دول أخرى لحماية الأفراد سواء من الشباب أو القصر، كما من شأن توسيع هذه التوصيات ونشرها أن يعالجا قطاعا تحكمت فيه لعقود طويلة الميول الجنسية والاعتداءات الخفية والظاهرة والاستغلال.

المصدر: العرب