اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
كانت فكرة النزوح نحو جنوبي القطاع خيانة، والموت تحت سقف الدار شهادة، والشهادة وحدها كانت تبدو النجاة الوحيدة من هذا الواقع الذي ابتلع كل أشكال الحياة. كيف نرحل ونحن الذين تجرعنا كأس النزوح من قبل، ونعرف طعمه المر الذي يبقى عالقا في الحلق عمرا ودهرا؟
في غمرة هذا الصمود، أدرك المحتل الماكر أن للثبات شريانا، فضرب شرياننا عبر قصف البئر التي تروي ظمأنا وتسقي حياة ضئيلة كانت قد تبقت.. أدرك أن الروح قد تصبر على الجوع والخوف، لكنها من المستحيل أن تقوى على العطش
في هذه الجولة من الحرب، ومع إصدار الاحتلال أوامر نزوح أحياء غزة نحو الجنوب، حاولنا أن نلملم شتات أنفسنا تحت وابل القذائف التي كانت ترسم حولنا دوائر الموت. شاهدنا الصواريخ الغادرة تخطف أرواح جيراننا، وتطفئ حكاياتهم دون وداع.
وفي غمرة هذا الصمود، أدرك المحتل الماكر أن للثبات شريانا، فضرب شرياننا عبر قصف البئر التي تروي ظمأنا وتسقي حياة ضئيلة كانت قد تبقت.. أدرك أن الروح قد تصبر على الجوع والخوف، لكنها من المستحيل أن تقوى على العطش. فحين يُفقد الماء، تموت كل أسباب البقاء. عند تلك اللحظة نزحنا؛ لا فرارا من الموت الذي يلاحقنا من السماء، بل بحثا عن قطرة ماء تبلل شفاه أطفالنا.
لجأنا إلى قريب في طرف آخر من المدينة، لكن اليد ذاتها التي قطعت الماء عنا هناك طاردتنا إلى ملجئنا الجديد. تكرر المشهد كأنه لعنة أبدية؛ من بيت إلى بيت، ومن حي إلى حي، حتى ضاقت بنا مدينتنا، ولم يعد فيها شبر يُؤوينا.
كان السؤال الذي يتردد في عقولنا: كيف سنعيش مع الخوف وانعدام مقومات الحياة؟ عند هذا المفترق الحاسم، ومع انعدام كل الخيارات، كان لا بد من القرار الذي يشبه نزع الروح من الجسد: الخروج من مدينة غزة والرحيل القسري نحو الجنوب.
يا إلهي، إنه ظلم ما فوقه ظلم! نزوح، وفراق، وألم، وفوق كل ذلك رحلة على درب الآلام مشيا على الأقدام لساعات لا تنتهي، وبرفقة أطفال! إن كنا نحن الكبار لا نملك جلدا على هذا المشي، فكيف لسيقان أطفالي الغضة أن تحملهم كل هذه المسافة؟
ما دفعنا للنزوح لم يكن الخوف من القصف، بل استحالة الحياة. حاصرتنا طائرات الكوادكابتر برصاصها، والدبابات بقذائفها، والطائرات بصواريخها، وذبحنا العطش. لكن الألم لم يكن في القرار وحده، بل في تفاصيله القاتلة.. كيف نجد مأوى في الجنوب؟ وكيف نصل إليه؟ كانت أسعار شاحنات النقل جنونا يلتهم ما تبقى من فتات الأمل، ونحن لا نملك إلا أقوات يومنا.
ثم جاء اتصال كخيط نور في عتمة حالكة: قريب وجد لنا قطعة أرض زراعية لننصب عليها خيمتنا. انحلت عقدة وبقيت أخرى دون حل؛ فعشرات سائقي الشاحنات رفضوا دخول منطقتنا، فقد كانت مرسومة على خارطة الموت. أما المصيبة الكبرى التي كانت تنتظرنا فهي النزوح مشيا على الأقدام من مدينة غزة إلى مدينة خان يونس.
يا إلهي، إنه ظلم ما فوقه ظلم! نزوح، وفراق، وألم، وفوق كل ذلك رحلة على درب الآلام مشيا على الأقدام لساعات لا تنتهي، وبرفقة أطفال! إن كنا نحن الكبار لا نملك جلدا على هذا المشي، فكيف لسيقان أطفالي الغضة أن تحملهم كل هذه المسافة؟ مجرد التفكير كان يزلزل كياني.
ومشينا.. كان الطريق ثعبانا أسود يمتد إلى ما لا نهاية، وكأن عقارب الزمن قد تجمدت وتركتنا في هذا الشارع الطويل الذي لا ينتهي، تماما كالحرب الحالية التي لا نعرف لها نهاية.
كانت خيبتنا تجر أقدامنا نحو المجهول، ولم يكن يقطع صمت أرواحنا المكلومة إلا بكاء الصغار وقد استنفدوا كل ذرة من صبرهم وقوتهم. كنت أمسك بيد طفلتي وأشدها برفق، وهي تتعثر وتكاد تسقط، بينما يلاحقني صوت ابني وهو يلهث خلفي كصدى موجوع: “ماما، أنتِ كتير سريعة!”
رغم أنهم أجبرونا على الخروج من مدينة غزة، فما لا يعلمونه أن غزة لن تخرج منا ما حيينا؛ فنحن منها وهي منا، وعودتنا لها قريبة، لنعيد لها حياتها
لم يكن بوسعي حمل أطفالي والجري بهم. كنت أتألم وأنا أقف عاجزة عن تسكين آلامهم وإيقاف معاناتهم، ولعلي شعرت بنقص الأمومة وأنا أجبرهم على تحمل المشي كل هذه المسافة الطويلة، كأني أساهم في عذابهم المتواصل. ذلك اليوم كان مشهدا من يوم الحشر؛ كل نفس بما كسبت رهينة، وكل عين لا ترى إلا هول خطوتها القادمة.
بعد عشر ساعات من عذاب متواصل، كانت أشعة الشمس فيها سياطا تلهب أجسادنا، وصلنا… أو هكذا خُيل إلينا. وصلنا لنفتح سفرا جديدا في ملحمة العذاب، لنحاول أن نخلق حياة من العدم على أرض لا نملك فيها شيئا! وصلنا إلى مكان يقول المحتل إنه “آمن”، ونحن نعلم أن كل شبر في أرضنا فخ للموت ينصبه المحتل.
اعلموا يا سادة أن قوانا قد ذابت، وأجسادنا قد تآكلت، لكننا ما زلنا نقاوم كل إحساس بالعجز. ما زلنا نحتضن أطفالنا، لا لنحميهم من القتل والمرض فحسب، بل لنحميهم من ذاكرة مشوهة كهذه… ذاكرة طريق حُفرت في أرواحنا بندوب أبدية.
لكن، رغم أنهم أجبرونا على الخروج من مدينة غزة، فما لا يعلمونه أن غزة لن تخرج منا ما حيينا؛ فنحن منها وهي منا، وعودتنا لها قريبة، لنعيد لها حياتها.
الجزيرة نت