اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
كانت البداية من حديث دار بينها وبين عدد من أطفال الخيام، سألَتهم “أحلم أن أصير دكتورة، ماذا عنكم بماذا تحلمون؟” لتتلقى اندفاعا وإجابات تكشف عن مكامن حالمة في نفوسهم، ومن هنا بدأت الحكاية.
حكاية عمرها ۹ شهور، تمكنت فيها خريجة اللغة الإنجليزية وطالبة الماجستير دعاء قديح من إحداث تغيير جذري في تفكير وسلوكيات الأطفال. وتقول للجزيرة نت “تحول تفكيرهم من الحزن على ذكرياتهم المؤلمة إلى أحلامهم الجميلة، ومن السلوك العدواني إلى الاندماج وتكوين صداقات جديدة”.
كان لإخوة دعاء الحاصلين على شهادات في الإرشاد التربوي والنفسي الفضل الأكبر في مساعدتها من خلال إعداد الخطط اللازمة للتعامل مع أطفال الحروب، ومحاولة استعادة ثقتهم بأنفسهم عبر المواجهة وكسر حواجز الخوف. وهي تقوم بعملها بشكل تطوعي، وتؤكد “فخورة جدا لأنني رفضت السفر وقررت إكمال طريقي من أجل غزة وأطفالها، تعثرت بالأمل الذي يمكن أن يخفت لكنه لا يختفي أبدا”.
قصتها واحدة من مئات قصص التحدي لنساء غزيات فرضت عليهن حرب الإبادة شكلا جديدا من الحياة تعدت فيه أدوارهن الأمومة والرعاية إلى تقمص أدوار رجالهن الذين صيرتهم الحرب إما شهداء أو أسرى أو مطاردين أو في عداد المفقودين.
ووجدت المرأة الفلسطينية نفسها أمام طوفان من المسؤوليات الإضافية والجديدة، فإما أن تغرق فيها أو أن تصنع سفينتها بيدها وتنجو بأطفالها من مستنقع العوز والحاجة.
من أمام خيمة نزوحها وعلى نار الحطب، تُسخن رضا مصلح (۱۶ عاما) الماء تمهيدا لصنع مشروبات ساخنة تبيعها للنازحين والصحفيين في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط غزة.
تضطر رضا للقيام بدور أكبر منها لإعالة أسرتها المكونة من ۱۲ فردا، جُلهم من المصابين، وتقول للجزيرة نت “بعدما جنيت دخلا من بيعي للمشروبات اشتريت جرة غاز صغيرة بعين واحدة حتى أحمي نفسي من نار الحطب التي غطت يدي بالحروق”.
طفلة فرض اليتم عليها تقمص دور معيل الأسرة المصابة، في حرب جردت الطفولة من تعريفها ومضمونها، وتضيف “تعبتُ جدا وأحلم أن أعيش طفولتي كما تعيشها مثيلاتي الفتيات في العالم”.
بكل وقار، تجلس أم مالك بارود في بيت العزاء الذي تقيمه للمرة الخامسة خلال عام واحد، فقدت فيه ۴ من أبنائها الذكور، وابنة واحدة هي صحفية كان من المقرر أن تحتفل باجتيازها مرحلة الدكتوراه بعد أسبوع من يوم استشهادها.
“مالك، وحنين، ومحمد، ومؤمن، و أحمد” تعدد الأم على أصابعها أسماء أبنائها الذين ثُكلت بهم، وتكمل بعد تنهيدة وصمت “والدهم مفقود لا أعرف مصيره”، لقد نسفت الحرب كل ما بنته أم مالك وأفنت عمرها من أجله خلال عام واحد، في ابتلاءات متعاقبة قابلتها في كل مرة بالزغاريد.
وتبرر ذلك بقولها “الشهادة فرحة يرفعني الله في الجنة مع كل ولد أقدمه من أجله”، ورغم صلابتها التي تبدو عليها فإن عينيها تفضحان ألما دفينا “آسفة أن يُجردنا البعض من مشاعر الشوق والحزن والحنين، نحن ككل الأمهات في العالم، لكن همومنا مختلفة فهمنا ينصب على صناعة جيل يفدي الوطن والدين وهذا ما يميزنا”.
وتكمل “لقد علمت أبنائي أفضل تعليم وربيتهم وثقفتهم وبنيتهم خلية خلية ثم قدمتهم لأجل كرامة وأغلى وطن”. تحمل أم مالك همّ “الأمة النائمة” التي تمارس -كما تقول- خذلانها على الشعب الفلسطيني الذي يواجه وحده “أقوى جيوش العالم”، وتؤكد “اعتمادنا فقط على الله، ثم على رجال المقاومة الذين احتملوا ما لا يطيقه بشر منذ أكثر من عام”.
تخلو قواميس أمهات الشهداء من مفردات الاستسلام، ورحيل ولدها أهون عليها من ذلك، تقول أم مالك “يمكننا تكفين أبنائنا بالقماش الأبيض لكننا من المستحيل أن نرفع الراية البيضاء”.
منذ أكثر منذ ۳۹۵ يوما لم تبرح الممرضة دلال أبو عمشة مستشفى كمال عدوان شمال غزة ولم تخرج من أسواره، حتى خلال وقوعه في دائرة النار وبقعة الموت وحصاره الذي ما زال مستمرا منذ أكثر من شهر.
“لا يمكنني أن أولي ظهري للجرحى والنازفين وأرحل”، تفسر دلال إصرارها على البقاء في المشفى حتى في حصاره الذي عاشت أهواله حين جمع الاحتلال أكثر من ۲۰ ممرضة على درجه وانهال عليهن بأفظع الشتائم والإهانات اللفظية.
وأبو عمشة أم لـ۵ أطفال اصطحبتهم معها في غرفة في المستشفى حتى تبدد قلقها المستمر عليهم خلال ساعات عملها الطويلة، كما تقول للجزيرة نت.
تذكر الموقف الأقسى خلال الحصار حين دخل طفل مصاب مع المسعفين إلى المستشفى وكان وحيدا دون أهله، ارتمى في حضنها وتمسكت يداه الصغيرتان بها، وحين انتهت من تقديم العلاج له وخاطت جروحه، رفض تركها لساعات طويلة إلى أن نجحت في معرفة مكان أهله وأوصلته إليهم رغم الخطر المحدق الذي كان يهددها في الطريق.
وبين متطلبات الأمومة والتمسك بأداء الدور الإنساني، تؤكد الطبيبة دلال أنه لا شيء يمكن أن يحول دون تقديم المرأة الغزية كل ما في وسعها من أجل التخفيف من ويلات الحرب التي لا تفرق بين رجل وامرأة وطفل وشيخ، أو بين مدني وعسكري.
أما أم فؤاد الزبدة فقد هدّها فقد زوجها وابنها البكر، وكادت في أيام عصيبة تستسلم للحزن في قبضة الفقد، لكنها وجدت نفسها مضطرة للنهوض من نكستها، وتقول للجزيرة نت “بعد مدة من رحيل رجال البيت وجدتني أمام مسؤوليات جسام، تطلبت مني توفير قوت أبنائي وأحفادي، فقررت البدء بمشروعي الخاص”.
تصنع أم فؤاد الأجبان والألبان ولاقى مشروعها استحسانا من دائرة المقربين والمعارف حولها، وتوضح أنها اختارته لأن الأسواق في غزة تفتقر للجبن ويقتصر الناس في وجبات الفطور على “الدُقة” (توابل) والزعتر.
وأضافت أنها اجتازت دورات متقدمة قبل الحرب تعلمت فيها هذه الصناعة بشكل متقن، وحظي مشروعها بإقبال ملحوظ من الناس واستطاعت من خلاله تأمين أبنائها بشكل جزئي، غير أن غلاء الحليب والمواد الخام يحول دون استقراره واستمرارها فيه بشكل دائم.
غزيات بإرادة حديدية وصمود لم يسبق له مثيل ولم يسجله التاريخ لنسوة من قبل، يخفين فيه إنهاكهن بمكابرة رغم كل ما فيهن، وتؤكد أم فؤاد “لن نري الاحتلال ما يريد أن يراه من ضعفنا وأوجاعنا، نحن على استعداد لبيع أرواحنا وأغلى ما نملك في سبيل الله ولا نبخل، ولا يصبر على هذا سوى أشرف نساء الأرض”.
المصدر : الجزيرة