اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
“كل ما يخص أطفالي بعيد عن محافظتي. أذهب آملة في شراء كتاب أو قلم يخفف الضغط عن أصابعهما، لكن لا أجد شيئا متاحا في كل مرة، ولن أمل البحث”. هذا ما تقوله هناء لـ”الجزيرة. نت”.
تعيش هناء (اسم مستعار) في قرية نائية عن مركز مدينتها، وترعى طفليها الكفيفين. تعلمت الطفلة الكبرى طريقة “برايل” أخيرا، بعد عامين قضتهما في مدرسة عامة، تكافح لتحصيل أي معلومة في يومها الدراسي. واليوم، تبيت الابنة في مدرسة للمكفوفين، تبعد ساعتين عن منزلها، ليستحيل مبيتها على فراشها.
تميز الابنة بين الأشخاص المحيطين بها، وتتسم بالشجاعة -على حد وصف هناء- تلك التي يفتقرها شقيقها الأصغر. لم يقو الطفل على المبيت في المدرسة بعد تعرضه للضرب ليلا من زملائه، وسقطت شكواه لجهله بهوية من ضربه، حيث لا رقيب ليليا، وباب موصد حتى الصباح، يمنعه من اللجوء إلى شقيقته إن أصابه مكروه.
قالت هناء: “حذرتني معلمته من ضياع درجات الغياب، وينبغي عليه الالتزام في العام القادم لحضور الامتحانات الأسبوعية، لكن كيف أدعه يبيت وحده؟ تتحلى أمهات أخريات بقوة لا أملكهما، فيركب أطفالهم حافلة المدرسة فجرا، لكن لن أحتمل الوقوف بهما ساعتين في القطار إن لم يلحقا الحافلة”.
سألت “الجزيرة. نت” هناء عن حلمها، فقالت: تكفيني ضحكتهما، لكن يتجدد الجرح كلما واجهتهما مواقف صعبة، أو تعثرت ابنتي في فهم درس وأنا بعيدة عنها. تحلم ابنتي بقراءة قصص الأطفال وأحلم باقتنائها مصحفا كي لا تنسى ما حفظت. يندر وجود كتب بطريقة “برايل” في مصر، وثمنها باهظ، فلا تختار ابنتي ما تقرأ، وتقرأ المتاح.
تقفت “الجزيرة. نت” أثر مصحف بطريقة “برايل”؛ فوجدت أن سعره يصل إلى نحو ۶۰ دولارا، وأنه متاح على متجر إلكتروني، لكن علق مؤسس جمعية محدودة لخدمة المكفوفين لـ”الجزيرة. نت” على كثرة الأخطاء الواردة بمصاحف المكفوفين في مصر، ما يدفع الأهالي لتسجيل أسماء أطفالهم، في انتظار نسخ المدينة المنورة التي تصل إليهم قبل شهر رمضان من كل عام.
ولد علي لأبوين صيادلة في عام ۲۰۱۱، لكنهما لم يدرسا في الجامعة عن “متلازمة داون” سوى نصف صفحة، بحسب حديث والدته هايدي كارم للجزيرة. نت، “مقابل صفحة واحدة إذا كنت طبيبا بشريا”.
أصاب الإحباط والدي علي، بعد تشخيصه بـ”متلازمة داون”، بسبب نصائح الأطباء بإنجاب غيره، أو توفير المال الذي قد ينفقانه لتحسين مهاراته. تعثرت كارم كثيرا خلال رحلة بحثها عن محتوى يعلمها التعامل مع طفلها، إلى أن سمعت عن مؤسسة “زيي زيك”، التي أنشأتها نهى السحراوي ومجموعة من أمهات ذوي الهمم، لتمكين غيرهن.
التقت كارم بالسحراوي، لتكتشف معها أمل تطوير مهارات ابنها، أسوة بما حققته السحراوي نفسها مع طفلتها مريم، فتقول هايدي للجزيرة. نت: “علمتني، وغيرت نظرتي للحياة، وشاهدت مقطع فيديو لمريم؛ بنت عندها متلازمة داون، أكبر من ابني، رفيعة، بتتكلم عربي وإنجليزي، وبتدرس في مدرسة عامة، زي أي طفل”.
تطوعت كارم لدعم الأسر في مؤسسة “زيي زيك”، حتى توقفت أعمال المؤسسة خلال أزمة “كوفيد-۱۹″، لتقرر تدشين صفحة باسم “بوند-Bond” على منصة “فيسبوك”، ومشاركة ما تعلمت مع أمهات أخريات، كي لا يتراجع مستوى أطفالهن خلال الحظر المفروض، وإيمانا بدور الأم في تغيير المجتمع والتصدق بعلمها، مثل مؤسسات “زيي زيك” وداليا سليمان مؤسسة “مصر للتوحد”.
انطلقت “بوند-Bond” عام ۲۰۲۰، لتعليم الأمهات طرائق التعامل مع أطفالهن، وتقديم الدعم النفسي لهن، ومشاركة بيانات أطباء ومختصين ومدارس تحسن التعامل مع ذوي الهمم وأمهاتهم، لكن لم يعد يقتصر عمل المبادرة اليوم على التواصل الإلكتروني لأمهات “متلازمة داون”، بل شكلت مجموعات دعم من أمهات أطفال أكبر سنّا لأمهات جديدات شُخص أطفالهن بالتوحد والشلل الدماغي وتحديات ذهنية وعصبية مختلفة، ليطمئنوا لوجود نور في نهاية الطريق.
تقول كارم للجزيرة. نت: “أول سنتين من عمر عليّ، كنت حاسة إني في جزيرة لوحدي، معايا فلوس بس مش عارفة أعمل إيه، ومش عايزة غيري تحس بده. الأمهات بتفكر في الانتحار بسبب إيذاء الأطباء والمختصين، وهذا إما يشعرها بالتقصير، أو يحبط آمالها. احنا -على الأقل- بنطبطب على بعض، والأم الجديدة تكتشف أنها ممكن تضحك وتهزر في يوم من الأيام”.
تتواصل كارم مع أمهات عربيات لا يواجه معظمهن مشكلة في عرض أطفالهن على طبيب أسنان أو باطنة في بلدانهن، في حين تضطر “كارم” للكشف على طفلها “أونلاين” مع أطباء أجانب، يعرفون أن لا فرق بين عليّ وطفل آخر لا يعاني “متلازمة داون”.
حين سألت “الجزيرة. نت” كارم عن حلمها، أجابت: “نفسي كلام الأطباء عن ابني يكون سليم، وليس نتاج صورة نمطية عن المتلازمة. نفسي الأخصائيين يجربوا يعلموا الأطفال مهارة جديدة، والمدربين يقبلوا يكتشفوا مواهب أولادنا. جيل ذوي الهمم الجديد بيعرف لغات وبرمجة، ومحتاج في المستقبل وظائف بمهارات أعلى من المهن المخصصة لهم حاليًا في القطاع العام والخاص”.
اختلف الأطباء حول تشخيص عبد الله في أول عامين من عمره، بين إن كان مصابا بـ”متلازمة داون” أو يحتاج بيئة نشطة للتفاعل، إلى أن لاحظت والدته تأخر حركته وتواصله. أسست هدى عبد الله مؤسسة “أنا إنسان”، في عام ۲۰۱۷، لتجربتها الشاقة طوال ۱۰ أعوام من عمر عبد الله، عانت خلالها صعوبة الوصول لمركز تأهيل جيد بسعر مقبول، لتضطر إلى قبول المتاح، بلا نتائج مرضية.
قالت هدى لـ”الجزيرة. نت”: كان هدفي أعمل مكان بسعر مقبول للأهل، وحلمي الأكبر أوفر مراكز تأهيل في قرى مصر، لارتفاع نسب الأطفال ذوي الهمم في القرى وصعيد مصر.
شكت هدى لـ”الجزيرة. نت” ضعف الاهتمام بتعليم أطفال ذوي همم، إلا بالمدارس المتخصصة، أما المدارس العامة ذات فصول الدمج، فبعضها يشترط عدم حضور الطفل، لعدم تأهيل المدرسين وعدم تقبل الطلاب وجود طفل ذي قدرات مختلفة.
قالت هدى: “ابني حاليا شاب. مل الرياضة، ومراكز التأهيل كلها أطفال. ابني موهوب، لكن يحتاج هدفا في حياته، وشعورا بأهميته”.
أنجزت هدى دراسات جدوى مشروعها لإنشاء مركز تأهيل مهني للأطفال فوق ۱۵ سنة، لخلق حياة هادفة ومنتجة لأولاد ذوي همم، وشعورهم بجدوى وجودهم، من خلال العمل والإنتاج وكسب العيش، من حرف يدوية، مثل النسج وتشكيل الفخار والخزف والشموع.
تواصلت “الجزيرة. نت” مع إيمان -اسم مستعار- والدة فتاة من مصابي “متلازمة داون” بعد يوم قضته الأم في محاولات يائسة لإلحاق ابنتها بكلية نوعية تتناسب ومهاراتها. قالت إيمان: “تعلمت مرام -اسم مستعار- التمثيل، وحصدت جوائز من نقابة الممثلين، وجوائز تميز في رقص الباليه، وتفوقت في دروس البيانو، والحساب الذهني (UC MAS)”.
التزمت مرام بالذهاب يوميا بمفردها إلى مدرسة ثانوية صناعية، قسم زخرفة، لحبها الرسم وتنسيق الألوان، بعد إصرار والدتها على دراستها مناهج عملية، بعيدا عن الثانوية العامة بمناهجه النظرية. هانت معركة إيمان لإلحاق ابنتها بالمدرسة الثانوية، أمام معركة التحاقها بالجامعة؛ ورفضت إيمان إلحاق ابنتها بمعاهد لعلوم نظرية، أو تشترط عمل الفتاة في بيئة لا تثق الأم في أمانها وتفهمها لحالة مرام، لذلك قدمت ملف ابنتها لكلية تقبل طلاب ذوي همم بمجموع تنسيق ۵۰%، تخطته نتائج مرام، لكنها تعرضت ووالدتها لتعسف لجنة التقييم ضدهما.
اجتازت مرام اختبار معدل الذكاء، لكن خضعت للجنة تقييم انقسم أعضاؤها بين مشيد بمهاراتها، ومقلل من شأنها بحسب وصف إيمان. وتعرضت إيمان لاتهام بمحاولة تعليم ابنتها للمباهاة، وتقليل من شأن درجة الأم العلمية المتوسطة، كما نصحها بعض أعضاء اللجنة بالاكتفاء بشهادة ابنتها الثانوية، وتوفير وقت الأم في مرافقة ابنتها من الكلية وإليها، مشيرين إلى احتمالية معاناة ابنتها من التوحد، بعد شعور مرام بالاضطهاد، وصمتها.
تكرر عرض مرام على أعضاء هيئة تدريس بالكلية، لتثبت أهليتها مرارا، وتعاد على مسامع إيمان نصيحة إلحاقها بكلية نظرية، لا تحتاج حضورها، لحمل شهادة في علوم لا تتناسب ومهارات أبناء “متلازمة داون”، المعروفين بمهاراتهم الإبداعية والفنية.
قالت إيمان لـ”الجزيرة. نت”: نظام الدمج المعمول به في الجامعات المصرية أخيرا لا يطبق على يد دارسين لحالات أبنائنا. أنا تعليمي متوسط، وبنتي مختلفة، لكنها تعلمت كيفية التعامل مع الآخرين، والرحمة بهم، ولن أتخلى عن حلم حملها شهادة عليا، وحقها في دراسة تفيدها، وحقي في الفخر بموهبتها.
المصدر: الجزيرة