يعشن ويمتن بلا حقوق… عراقيات محرومات من الحصول على وثائق تُثبت وجودهن

مع إشراقة شمس كل صباح تبدأ عروبة، من منطقة سويب الزراعية غرب بغداد، حلب بقرتيها، تملأ بحليبهما بضع عبوات بلاستيكية سعة لتران، ثم ترسلها مع شقيقها الصغير وابن عم لهما، لبيعها في سوق الرابعة القريب.

روتين حياتي اعتادته منذ كانت طفلة صغيرة، ضمن حدود رسمت لها ولن تتمكن من تجاوزها مطلقاً، تقول هذا وهي تربت على رأس إحدى البقرتين الموشوم بياضها بالأصفر وتضيف: “لا شيء يحق لي، أنا موجودة فقط لخدمة الآخرين”.

لا يبدو على السيدة العراقية الحزن وهي تردد هذه العبارة وإنما أكثر عدم اكتراث. تضع العبوات في صندوق بلاستيكي كبير داخل عربة جر خشبية، وتتابع بعدما لوّحت مودِّعةً الفتيين: “أول مرة اكتشفت فيها ذلك كان قبل سنوات، عندما سمح لي أبي – رحمه الله – وبعد توسل مني أن أشتري هاتفاً خاصاً بي. بعد أن اختارت واحداً مستعملاً، طلب مني البائع بطاقة الهوية من أجل أن يعطيني شريحة الاتصال”.

تضع عروبة، يدها على فمها وكأنها تستعيد دهشة اكتشافها المتأخر: “كان عمري وقتها قد تجاوز العشرين عاماً، عرفت أنني لا أملك بطاقة شخصية، وأنه لا يمكن أن أشتري أو أسجل أي شيء باسمي دونها”.

في ذلك اليوم، أخبرها والدها بأنها فضلاً عن شقيقتيها المتزوجتين لم يصدر لهن بطاقات هوية الأحوال المدنية. وهذا يعني أن لا وجود رسمي لثلاثتهن في سجلات الدولة، وأنهن محرومات من العديد من حقوقهن. تذكر أنه قال لها يومها مبرراً: “شقيقتاكِ في بيتي زوجيهما معزّزتان مكرمتان، وأنتِ برعايتي، لذلك لن تحتجن إلى شيء”.

شيخ عشيرة: “زوجتي الأولى لا تمتلك وثيقة، والدها متوفٍ، وأعمامها غير متفرغين لكي يسجلوها في صفحتهم العائلية بالنفوس، فسجلت أبناءها باسم زوجتيّ الأخريين، وحقوق الجميع محفوظة”!

تضيف عروبة:”سألته بعد لحظات إن كان أشقائي يمتلكون بطاقات هوية، فردّ: نعم، لأنهم أرباب أسر وأصحاب أعمال، يحتاجون إلى شراء العقارات والآلات الزراعية وتسيير معاملات الدوائر الحكومية التي تحتاج إلى هوية ومستمسكات رسمية، كما أن أولادهم يسجلون في المدارس”.

تمشي عروبة بخطوات متثاقلة لاستكمال مهامها المنزلية اليومية، وهي تقول: “حدودي هي بيتنا الذي فيه أمي العجوز وشقيقاي الأصغر غير المتزوجين، ومنازل أشقائي السبعة الآخرين المجاورة، وأيضاً بستاننا للمساعدة هناك في أعمال الزراعة”. وتُردف: “المشكلة أنني كلما تقدّمت بالعمر يزداد حزني على عدم تعلمي للقراءة والكتابة… أفكر بالأحلام الكثيرة التي لم تتحقق في حياتي”. 

عروبة، ليست استثناءً بل واحدة من بين عشرات العراقيات اللواتي يولدن بدون أن تحرر لهن بيانات ولادة تثبت في سجل الأحوال المدنية لعائلاتهم، ويعشن حياتهن دون أن يتلقين تعليماً ويحرمن من الكثير من حقوقهن، ويمتن من دون أن تحرر لهن شهادات وفاة.

يفتح هذا التحقيق ملف العراقيات اللواتي لا يمتلكن وثائق رسمية، لأسباب عديدة على رأسها الذكورية السائدة في الكثير من مناطق البلاد وتعمّد حرمان النساء من حقوقهن في الإرث حيث ترى مجتمعات قبلية في الأنثى “مجرد وعاء للنسل، وكائناً تقتصر مهمته على  خدمة الرجل”. 

وتتطلب محاولات الراغبات في مرحلة ما بالحصول على الوثائق والاعتراف الرسمي بوجودهن، المرور بقنوات قضائية وإدارية معقّدة بعضها تمتد لسنوات عديدة، ما قد يترتب عليه حرمانهن من حقوقهن في الإرث والتعليم والخدمة الصحية والاقتراع والحصول على جواز السفر وغيرها. 

قبليّة المجتمع 

الباحث الاجتماعي علي سالم يقول إن الدولة العراقية بالكاد اجتازت ۱۰۰ عام من عمرها إذ أنها تأسّست عام ۱۹۲۳، وقضت أكثر من نصفها مشغولة بـ”الانقلابات والحروب والحصار الدولي والتدهور الأمني والأزمات الاقتصادية والصراعات السياسية”.

ويضيف: “كما أن بلاد ما بين النهرين، كانت قبلها خاضعة ولأكثر من أربعة قرون لحكم الدولة العثمانية المتخلفة والمستندة في حكمها على سلطة شيوخ العشائر والبكوات” الذين فرضوا نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وتعليمياً يخدم استمرار سلطتهم ومصالحهم.

لذلك، حافظت القبليّة السائدة في المجتمع العراقي على أعرافها وقوانينها و”كانت السلطات الحاكمة في فترات ضعف الدولة وهي كثيرة ومتعددة تتغاضى عن ممارسات العشائر وما تفرضه من قوانين متعارضة مع حقوق الأفراد وقوانين ودستور الدولة، لأن العشائر كانت تمد الجيش والشرطة بالمقاتلين والمنتسبين، وتدعم كرسي الرئيس أو الأحزاب المتسيدة مقابل المال والامتيازات”.

لهذا، فإن حقوق المرأة في أجزاء عديدة من العراق خاصة في القرى النائية جنوب البلاد وغربها، وعلى رأسها حقها في المواطنة بحصولها على وثائق ثبوتية “ظل من المظالم المسكوت عنها، على الرغم من وجود قوانين تنظم هذا الحق”.

في العراق، “نساء كثر طوال عقود من الزمن، خاصة في فترات الأزمات، ولدن وعشن ومتن على هذه الأرض دون أن تعرف بهن الدولة، فلم يكن يدخلن المدارس ولا توثق عقود زواجهن في المحاكم ولا يرثن أو يورِّثن شيئاً أو تُستخرج لهن شهادات وفاة بعد وفاتهن”. لماذا؟

ويقول الباحث سالم: “لذلك فإن نساء كثر طوال عقود من الزمن، خاصة في فترات الأزمات، ولدن وعشن ومتن على هذه الأرض دون أن تعرف بهن الدولة، فلم يكن يدخلن المدارس ولا توثق عقود زواجهن في المحاكم ولا يرثن أو يورِّثن شيئاً أو تُستخرج لهن شهادات وفاة بعد وفاتهن!”.

ويستدرك:”إذا اقتضت الضرورة تسجيل أبناء بعضهن الذكور تحديداً، فيتم في أحيان كثيرة تسجيلهم باسم واحدة من زوجات الرجل، إذا كان لديه أكثر من واحدة وصودف أن إحداهن مسجّلة في السجلات الرسمية”.

ويذكر أن سبب عدم تسجيل النساء واستصدار وثائق رسمية لهن يعود إلى “النظرة القبلية بأن المرأة في مرتبة أقل من الرجل وأنها لا تورث، لكي لا تذهب أموال وممتلكات العائلة أو العشيرة ولا سيما الأراضي إلى ملكية أزواجهن وبالتالي خروجها من ملكية العائلة أو العشيرة”.

السبب الآخر الذي يسوقه الباحث الاجتماعي هو “الاعتقاد القبلي السائد بأن مكان المرأة هو بيت أهلها أو زوجها، لذلك فهي لا تحتاج إلى تعليم أو تَمَلُك أشياء باسمها، فهذه كلها أمور تخص الرجل دونها، ومهتمتها الرئيسية أن تنجب له ذكوراً قدر الإمكان!”.

يؤكد الأكاديمي المختص بعلم الاجتماع، بيار أحمد، وجود ثقافة مجتمعية في العديد من مناطق البلاد، شجعت على حرمان النساء من حقوقهن بما فيه أحياناً حق الوجود في وثائق الدولة، مشيراً إلى واحدة من الأمثلة الشائعة على نظرة شريحة واسعة من المجتمع سواء في الريف أو المدينة للمرأة وهو التعامل مع وفاتها.

يقول: “لا يكفي أنها تعيش حياتها مثل شبح غير مرئي، لتقوم أسرتها بإعلان وفاتها دون ذكر أسمها، فكثيراً ما نشاهد لافتات عزاء نساء وهي تحمل عبارات مثل عقيلة أو كريمة أو والدة فلان الفلاني!”.

ويواصل:”البعض يسجلون أرقام زوجاتهم في هواتفهم الجوالة باسم ‘البيت’، وشائع جداً في العراق أن تسمع أحدهم يقول مثلاً: أخذت البيت إلى السوق أو الطبيب، والبعض الآخر يسميها ‘الأولاد’. فيقول كانت معي الأولاد أو أخذت الأولاد أو العائلة… وهكذا”.

التربوية إيناس هادي سعدون تقول إنها قابلت خلال مزاولة عملها في مدارس البنات الكثير من الأمهات ومعهن بناتهن الصغيرات اللواتي تراوح أعمارهن بين (۸ -۱۰) سنوات يرغبن بتسجيلهن مستمعات في تلك المدارس “وذلك لأنهن لا يمتلكن أوراقاً ثبوتية لتسجيلهن مثل باقي التلميذات”. 

وتعتقد سعدون أن العادات والتقاليد الاجتماعية المجحفة بحق الإناث، هي التي أدت إلى تفاقم المشكلة “لأنها تفرض تمييزاً في الحقوق بين الجنسين، وتمنح الرجال التفضيل في الحصول على المستندات الرسمية ومسؤولية تولي الأمور الأسرية وقراراتها مع تمثيل تلك الأسر أمام المجتمع والقانون”.

وتشير سعدون إلى أنها على علم بنساء يرغبن في المضي في معاملات تسجيل بناتهن في السجلات الرسمية “لكن ذلك يفرض عليهن تحديات اجتماعية متمثلة في عقبة الزوج والأرباب الذكور فضلاً عن عوائق اقتصادية تجعل عملية استخراج المستندات أكثر صعوبة بالنسبة لهن مقارنة بالرجال”. وتستدرك: “الصعوبة تتفاقم أمام النساء الأميات اللواتي يُمنع خروجهن من بيوتهن لأي سببٍ كان ويبقى اعتمادهن المباشر على الزوج أو الأب أو الشقيق”.

وتعتقد سعدون كذلك أن انعدام الوعي في بعض المجتمعات الصغيرة “هو عامل أساسي في سلب حقوق الإناث باستخراج المستندات”. وتضيف: “هذا فضلاً عن تزويج القاصرات الذي يمنعه القانون، فيلجأ الأهل إلى تزويجهن خارج المحكمة دون عقدٍ مصدق يضمن حق الزوجة، وبالتالي تنجب أطفالاً يظلون هم كذلك دون مستندات ايضاً ولا سيّما الإناث”.

وتذكر سعدون أن سلسلة المشاكل لا تتوقف عند هذا الحد فقط، بل تكبر “عند طلاق هذه الفئة من النساء، ليظل الأبناء في حيز اللا اعتراف بهم كأبناء شرعيين من زواج حقيقي، وهي سلوكيات يمارسها البعض من الرجال للتنصّل من المسؤولية عن حقوق الزوجة والأطفال”.

وتتهم التربوية العراقية الجهات المختصة في الدولة بالسكوت عن حالات منع استخراج المستمسكات للبنات و”كأن الأمر لا يحدث على أرض الواقع، فلا يوجد أي نص قانوني مباشر أو حتى غير مباشر في مثل هذه الأمور، وبالتالي لا عقوبات على ذلك الفعل الشائن”.

حق مسلوب منذ القدم

بدوره، يعتبر رئيس منظمة كردستان لمراقبة حقوق الإنسان، هوشيار مالو، أن عدم حصول النساء على أوراق ومستمسكات ثبوتية “قديم بسبب القبلية” التي يصف بعض معتقداتها بالرجعية “لأنها تعامل النساء وكأنهن لسن بشراً. فتفكيرهم الجمعي السائد والمتوارَث، ينصبّ على فكرة أن النساء لا يحتجن وثائق رسمية، لأن المرأة لا تشتري ولا تبيع”.

ويشير إلى أن ذلك لا يقتصر على عدم تسجيل مواليد الإناث فقط، بل يمتد كذلك إلى “التلاعب بوثائق النسب بتسجيل أحد الأبناء بأسماء الأخوة أو الأخوات أو أحد الأقارب”.

وسبب ذلك هو “إما أن الأبوين لا يمتلكان وثائق رسمية، أو أنهما يرزقان فقط بالإناث فيهبونهن للآخرين، ونادراً ما يحدث ذلك مع الأبناء الذكور”. ويلفت إلى أن التلاعب هذا لا يتم تثبيته رسمياً فور ولادة المولود “بل يهمل لسنوات طويلة حتى بلوغه سن المدرسة أو حتى سن الرشد، ويؤثر هذا بالتأكيد على حقوقه في التعليم والتملك”.

يؤكد مالو أن هذا الأمر شائع في الكثير من العائلات العراقية حيث “نسمع أن هذه البنت أو ذاك الولد، بنت أو ابن فلان، لكنه مسجل باسم عمته أو خاله وغير ذلك”. ويروي كيف أن الصراعات السياسية والحروب تؤدي إلى حرمان الكثيرين من الحصول على أوراق ومستمسكات رسمية، ويضرب مثالاً “في عهد النظام السابق، كان مقاتلو البيشمركة الكردية الداخلين في صراع مسلح مع القوات العراقية النظامية، يعانون من تسجيل أبنائهم، لأن الكثيرين كانوا يزورون منازلهم خلسة، وينتج عن ذلك حمل زوجاتهم، اللواتي يلدن في المنازل بواسطة القابلات وينشأ الطفل دون أوراق رسمية لأن السلطات الأمنية كانت ستكتشف أن المقاتلين أولئك كانوا يترددون على منازلهم على الرغم من أنهم ملاحقون”.

يبدي شيخ القبيلة استغرابه من مشاكل يقول إنها ظهرت في السنوات الأخيرة مثل “قيام نساء بتقديم شكاوى ضد إخوانهم في المحاكم بسبب الميراث أو التعنيف أو غيرها”، مستطرداً “في عشيرتنا هذه الأشياء مرفوضة، المرأة عاطفية وعقلها صغير يمكن التلاعب بها بسهولة ولهذا أحرص على منعهن من امتلاك الهواتف واستخدام الإنترنت”!