یبدأ بالموسم “موسم الزيتون” كحدث رئيسي

إن محاولة فهم علاقة الإنسان بالمكان والمواسم فلسطينيًا، لهي نفاد للركائز الأساسية لفهم كيفية تشكّل الذاكرة الفردية والجمعية، إذ تتقاطع فيها الأبعاد الجغرافية والزمانية مع الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية. فالإنسان هو نتاج علاقة جدلية مع المكان الذي يسكنه ومع الزمن الدوري الذي تعكسه المواسم.

وإن ذاكرة الإنثى ذات فضاء بعناصر أكثر زخمًا في تشكلها، وتأثير المكان والموسم عليه يستدعي ارتباطات عديدة، في موسم قطاف الزيتون على سبيل المثال، وهو موسم فلسطيني له ذاكرته وشعائره في أكثر من موسم قطاف، وكذلك فإن موسوم الزيتون عمومًا  في المشهد الفلسطيني، ليس حصادًا بقدر ما هو رمز للمكان الفلسطيني ذاته.

إن رمزية الزيتون المعمر الرومي يضرب جذوره عميقًا في الأرض في الأرض مثلما تضرب الذاكرة جذورها في التاريخ والوجدان.  ولدى النساء الفلسطينيات ارتباط بين الموسم والمكان في الوجود والذاكرة،  فالبيت، والحقل، والقرية تظل حاضرة في ذاكرتهن وطقوس القطف والطهي والرائحة والغبار والمفارش والسير نحو الحقل وطريقته وساعات النهوض في الصباح وغيرها من التفاصيل. 

المكان ليس مجرد إطار مادي يحتوي الإنسان، بل هو وعاء للذاكرة، ومسرح لتجارب الحياة اليومية. في نظر غاستون باشلار، يصبح البيت مثلًا “جسدًا ثانيًا للإنسان”، يختزن ذكرياته ويعيد إنتاجها عبر الصور الحسية والرمزية.

“يا بنتي، موسم الزيتون كان عيدنا الكبير، أكبر من كل الأعياد. كنا نصحى قبل طلوع الشمس، نحمل القفف والشراشف، ونروح على الحقل. الأشجار واقفة مثل العجائز الطيّبات، شايلات همّنا ورازقاتنا بخيراتهن. كنت أسمع أصوات الرجال يسلّموا على بعض من بعيد: (الله يصبحكم بالخير)، والنسوان يرددن وهن يوزّعن الخبز والزيت والزعتر للفطور. كنا نفترش الأرض تحت الشجرة، نمدّ الشراشف، ونسقط حبات الزيتون عليها مثل المطر. البنات يغنين: يا زيتونة يا مباركة… يا حاملة همّنا وراجعة.

كنت صغيرة وقتها، أحب أركض بين الأشجار وألعب، لكن أمي كانت تصرخ عليّ: (تعالي ساعدينا!)، فأجلس أفرز الحبات، الخضر على جنب والسود على جنب. كانت جدّك الله يرحمه يرفعني على كتفه حتى أوصل لأعلى الغصون. الموسم كان يجمعنا كلنا: العمّات، الخالات، الجيران. ما في بيت كان يقطف وحده. وبعد ما نخلص، كنا نروح على المعصرة. آه يا المعصرة… ريحة الزيت الطازة تملأ الدنيا، والرجال يتجادلون أي زيت أغزر وأصفى. كنا نرجع إلى البيت بجرار الزيت الأخضر، يلمع مثل الذهب”. تحكي جدّة عن موسم قطاف الزيتون. 


اقرأ أيضًا: أدب المقاومة: الروايات التي حفظت التاريخ الفلسطيني


المكان ليس مجرد إطار مادي يحتوي الإنسان، بل هو وعاء للذاكرة، ومسرح لتجارب الحياة اليومية. في نظر غاستون باشلار، يصبح البيت مثلًا “جسدًا ثانيًا للإنسان”، يختزن ذكرياته ويعيد إنتاجها عبر الصور الحسية والرمزية. المكان بهذا المعنى يتجاوز الملموس إلى فضاء شعوري ورمزي، حيث يرتبط الإنسان بالزوايا، والأصوات، والروائح، كعلامات متجذّرة في ذاكرته.

ولدى النساء في هذه المقاربة النظرية حضور وصناعة للحدث في الذاكرة والذاكرة الموسمية المكانية، لذلك تروي جداتنا باستمرار قصص القطاف محملة بمشاعر وعواطف حميمة، متعبة وفرحة في آن. الجدات يروين عن خصب القطاف سنة وشحة في السنة التالية، عن حطب الطهي وشاي النار ولمة الصغار حول طبق الطعام، وعن توزيع المهمام واحتمالهن تعاقب تسلسل القطاف والتذرية حتى موعد عصر الزيتون وما بعدها.

فهن ينقلن خبرات القطاف، أساليب تخليل الزيتون، وأغاني المواسم التي تتوارثها الأجيال. بذلك يتحول الموسم إلى ذاكرة نسوية متجددة، تحافظ على استمرارية العلاقة بالمكان رغم محاولة التهجير والاقتلاع. فالنساء الفلسطينيات، بحكم دورهن المحوري في الحقل والبيت، أصبحن حارسات الذاكرة.

وموسم الزيتون يعود كل عام، ليعيد ترتيب حياة النساء الفلسطينيات وفق إيقاع زمني متكرر. القطاف في الخريف ليس مجرد عمل زراعي، بل زمن شعائري، تلتقي الأسرة والقرية كلها في لحقول. النساء يربطن بين سنوات العمر ومواسم الزيتون: “في موسم الزيتون تزوجت”، “في موسم الزيتون اعتُقل ابني”، “في موسم الزيتون نزحنا”. 

المواسم تمثل البعد الزمني الذي يُكسب حياة الإنسان إيقاعًا متكررًا. فالزمن الموسمي ليس خطيًّا، بل دائريّ يعيد الأحداث ويجعلها طقوسًا متكررة. مثلًا، يرتبط الربيع ببدايات جديدة واحتفالات زراعية أو دينية، بينما يرتبط الشتاء بالدفء العائلي والانكفاء إلى الداخل. هذه الإيقاعات تؤسس “ذاكرة زمنية” تتجدد كل عام، وتمنح الإنسان شعورًا بالاستمرارية والارتباط بالأرض.

وموسم الزيتون يعود كل عام، ليعيد ترتيب حياة النساء الفلسطينيات وفق إيقاع زمني متكرر. القطاف في الخريف ليس مجرد عمل زراعي، بل زمن شعائري، تلتقي الأسرة والقرية كلها في لحقول. النساء يربطن بين سنوات العمر ومواسم الزيتون: “في موسم الزيتون تزوجت”، “في موسم الزيتون اعتُقل ابني”، “في موسم الزيتون نزحنا”. هكذا يتحول الموسم إلى مرجع زمني تستعاد به الأحداث الكبرى في حياة الفرد والجماعة. 

أما عن البعد الوجودي للمكان والموسم إذا كان الزيتون عند النساء الفلسطينيات موسما للغذاء والرزق، فهو أيضًا موسم/ زمن/ حدث عائلي، يسبقه إعداد نفسي وتجهيزات وترتيبات يشارك فيها كل أفراد العائلة الممتدة. والقطاف ليس مجرد عمل زرعي، بل فعل وجودي يربط الإنسان بأرضه. النساء الفلسطينيات يجسدن هذه العلاقة بوعي مزدوج: وعي بالزمن الدوري (عودة الموسم)، ووعي بالزمن التاريخي (الصراع، التهجير، الاحتلال). ومن تداخل الزمنين تتشكل ذاكرة لا يمكن فصلها عن المكان. 

فالمكان يوفّر الثبات والرسوخ والمواسم توفّر التغير والتكرار والإنسان هو الوسيط الذي يحمّل المكان والمواسم معاني وقيمًا. ولا تُبنى علاقة الإنسان بالمكان والمواسم على المستوى الفردي فقط، بل تمتد إلى الذاكرة الجمعية. فالأعياد، المواسم الزراعية، والأسواق الشعبية تشكّل تقاليد جماعية تحفظ الهوية، وتعيد إنتاج الانتماء المشترك عبر الزمن. هنا يتحول المكان إلى حامل للهوية، والموسم إلى رمز للاستمرارية.

تبنى الدراسات الاستعمار مقارباتها في نظريات الزمان والمكان بربطها بالبعد الوجودي للفلسطيني، فالاحتلال يعاقب الفلسطيني عندما يمنعه من الوصول إلى أرضه في موسوم القطاف، بل هو جزء من الأدوات الاحتلالية التي تضع حدًا فاصلًا أو حاجزًا بين الفلسطيني وذاكرته الموسمية التي لن يخطو إلى الزمان اللاحق بدونها، بل هو ناقص وغير مكتمل من دونها.

والمواسم تعود إلى المرء بذكريات وتجارب متراكمة. بهذا المعنى، تصبح علاقة الإنسان بالمكان والمواسم علاقة وجودية مزدوجة: هو يسكن المكان، والمكان يسكن ذاكرته؛ وهو يمر بالزمن، والزمن يتكرر فيه كذاكرة طقسية.

لذلك تبنى الدراسات الاستعمار مقارباتها في نظريات الزمان والمكان بربطها بالبعد الوجودي للفلسطيني، فالاحتلال يعاقب الفلسطيني عندما يمنعه من الوصول إلى أرضه في موسوم القطاف، بل هو جزء من الأدوات الاحتلالية التي تضع حدًا فاصلًا أو حاجزًا بين الفلسطيني وذاكرته الموسمية التي لن يخطو إلى الزمان اللاحق بدونها، بل هو ناقص وغير مكتمل من دونها.

وكذلك يعمد الاحتلال عند مداهمة القرى إلى تدمير أشجار الزيتون بصورة همجية، متعمدًا فعل ذلك على مرآى من الفلاح صاحب الأرض ليصيب ذاكرته التي انبنت في زمن متكرر ومتوارث.

بنفسج