۱۲ شخصاً حتى نيل الحرية! مهمة مادلين

لم يكن العثور على أعضاء سفينة "مادلين" أمراً صعباً. فكم عدد أولئك الذين، من بين سكان هذا العالم البالغ عددهم 8 مليارات، خاطروا بحياتهم؟ "شعيب أردو" كان واحداً من هؤلاء الإثني عشر.

لم يكن العثور على أعضاء سفينة “مادلين” مهمة صعبة. فكم من البشر على هذا الكوكب، مستعدون لأن يضعوا أرواحهم على كفوفهم؟ شعيب أردو، كان أحد هؤلاء الإثني عشر. عندما أرسلت له رسالة، كنت أعلم أنه مشغول للغاية خلال الأيام الأكثر حساسية في حياته لدرجة أنه قد لا يرى رسالتي.، لكن لم تمر سوى ساعات قليلة حتى تواصلت معي “سمیرا”، زوجته، وكتبت لي: «سأرتب لك مقابلة مع زوجي غداً. لكن السفينة ستصل خلال ٤٨ ساعة فقط، ولا وقت لدينا!»

لكنني لم أستطع الانتظار حتى الغد، خصوصاً بعد أن تعرفت علی سميرا؛ الشابة التي ودعت زوجها إلى غزة، رغم علمها أن إسرائيل قد تستهدف السفينة بصاروخ في أية لحظة. بدأت حديثي معها على الفور، وبدأت تروي لي ما لم يُحكَ عن سفينةٍ متوجهة إلى غزة.

قصة اختيار المسافرين الـ۱۲ على متن سفينة مادلين

سمیرا تركية الأصل، لكنها وُلدت وترعرعت في ألمانيا. عام ۲۰۱۳، ذهبت إلى مدينة بورصة التركية لدراسة الهیات ، وهناك التقت بشعيب. تزوجا وعادا سوياً إلى ألمانيا. في السابع من أكتوبر، حين تغيّرت صفحات التاريخ، تغيّرت حياتهما أيضاً. كانا يشعران بالعجز تجاه معاناة فلسطين كانت كلماتهم تفوح برائحة غزة. ماذا عساهم أن يفعلوا؟! كانوا يسألون بعضهم البعض هذا السؤال في كل مرة، ويقضون ساعات يبحثون عن إجابة بين أحاديثهم. مع أن إحدى أقدامهم كانت دائمًا في البرامج والمسيرات الداعمة لفلسطين، وكانت دعواتهم  فی الصلاه تنتهي بغزة، إلا أنهم كانوا يبحثون عن طريقة أكثر فعالية.

تحكي لي سميرة كيف تمكن شعيب من الوصول إلى إحدى السفن الأكثر حماسة في العالم:« في العام الماضي، بعد السابع من أكتوبر، بدأت أنا وزوجي البحث عما يمكننا فعله. كنا نشعر بالعجز حقًا. كنا نتواصل مع أشخاص مختلفين ونبحث عن فرصة للقيام بشيء مؤثر.»

 كنا نعلم بأمر سفينة “ماوي مرمرة” عام ۲۰۱۰، والتي استُشهد فيها ۱۰ أشخاص. شعيب حضر جلسات المحاكم المتعلقة بتلك الحادثة. وعندما سمعنا أن هناك سفناً ستتوجه مجدداً إلى غزة في أبريل ۲۰۲۴، ولدت الفكرة في أذهاننا.

وجودنا على تلك السفينة، بين كل هؤلاء المتطوعين، لم يكن في حسباننا. لكن يبدو أن البحث الجاد عن شيء سيُوصلك إلى هدفك. لم تكن لدينا أدنى فكرة عن كيفية التقديم، حتى وجدنا أخيرًا استمارة التسجيل. كانت معقدة وطويلة. كان شعيب متأكدًا من أننا لن نُقبل. ظن أن الأولوية للأطباء والمحامين والصحفيين، لذلك لم يتقدم بطلب على الإطلاق.

ولكنني كنت أعلم جيدًا مدى حرصه على هذه الرحلة ، دون أن أقول شيئًا، ملأتُ الاستمارة نيابةً عنا. كانت الاستمارة طويلةً جدًا، وطلبت معلوماتٍ كثيرةً عن خبراتنا وخلفياتنا وقدراتنا. ملأتُها بعناية. وأرسلتها ليس فقط إلى الوفد التركي، بل أيضًا إلى حملات أخرى أعضاء في تحالف أسطول الحرية.

قصة وداع رومانسية

حين كانت سمیرة تحزم حقيبة زوجها، كانت تدرك أنه ربما لن يعود. كانت تبكي لا لرحيله، بل لأنها لن ترافقه. لكن حبهما لم يكن كروايات المراهقين ولا كمسلسلات التلفزيون التركية بل کان حبّاً من المفترض أن يهز العالم.

بدأت قصة حبهما بهذه المبادئ المشتركة. بينما كانا طالبين عملوا بشكل تطوعي في المنظمات الخيرية.

لسنوات، دأبا على زيارة دور رعاية المسنين ومدارس أطفال اللاجئين السوريين ودور الأيتام، سعيًا لتحسين ظروفهم. هذا الاهتمام المشترك جمع قلوبهما. بعد ذلك، كلما تعرّض أحدٌ للظلم، كانت سميرة وشعيب يشعران بالحزن أيضًا. لم يكونا زوجين تذوّقا حلاوة الحبّ غير مباليين بالعالم. مهما حدث، كانا حاضرين في المشهد كجنديين. على سبيل المثال، عندما ضرب زلزال تركيا عام ٢٠٢٣، لم يترك شعيب وسميرة الجثث على الأرض، وقاما بغسل الموتى لمدة شهر.

عندما سألتُ سميرة كيف استطاعت الموافقة على هذه الرحلة، تفاجئني جوابها. تحدثت بثقة وهدوءٍ كبير، فلم يكن الانفصال عن زوجها صعبًا: “يجب أن أقول إنه منذ البداية، كانت نيتي أن أكون معه. ولذلك لم أفكر ولو للحظة في عدم الذهاب أو منعه. بل على العكس، أنا فخورة به، ولأكون صريحة، أحسد زوجي! لأنه عندما أفكر في الأمر، لا توجد رحلة أنبل في هذا العصر. كانت هذه هي الفرصة الوحيدة المتبقية لنا. وضع الله هذه الفرصة أمامنا لنفعل شيئًا ليس فقط بأقوالنا، بل أيضًا بأجسادنا وأفعالنا. لا أنا ولا زوجي، ولا أيٌّ منا، يمكن أن يرضى بتفويت هذه الفرصة. بالنسبة لي، كان عدم الذهاب أصعب من قبول رحيله.

بالطبع، ولأنني زوجته، فأنا أفكر فيه دائمًا. من الطبيعي أن أشعر بالقلق عليه. في عام ٢٠١٠، استشهد عشرة أشخاص على هذا الطريق تحديدًا؛ وهذا يزيد القلق. لكن هدفنا ليس الموت، بل كسر الحصار الإسرائيلي القاسي. لهذا السبب، عندما يسألني أحدهم: “لماذا تفعلون هذا؟”، “ألا تخافون؟”، أو حتى “هل تُقدمون على الانتحار؟”، أُفضّل أن أجيب: “لماذا تسألوننا هذا السؤال؟ لماذا لا يسأل أحدٌ إسرائيل بأي حقٍّ لها في ارتكاب هذه الفظائع؟” ليس ذنبنا. الحكومات، بصمتها ، أقنعتنا بفعل هذا. وعندما لا تفعل شيئًا، علينا أن نتحرك بأنفسنا.

في مثل هذه الحالة، كلما حظينا بدعم شعبي أكبر، ازدادت احتمالية استيقاظ الضمائر. العالم نائم، وما دام نائمًا، فلن يشعر ضميرنا وإنسانيتنا بالتهديد. لا أريد أن أكون من بين أولئك الذين أسرت اللامبالاة والروتين إنسانيتهم. ولأن زوجي لم یرغب في ذلك أيضًا، كان من السهل عليّ الموافقة على رحيله.

متاعب زوجين في رحلتهما إلى غزة

إن كل هذا الشغف الذي أبدته سميرة للمشاركة في تلك السفينة يثير في نفسي سؤالًا، خصوصًا وأنها هي من قامت بملء الاستمارات وأتمّت جميع مراحل التسجيل:

“لماذا لم تذهبِ مع زوجك؟!”

قالت: “كان من المفترض أن أكون أنا وشعيب معًا في هذه الرحلة. في أبريل ۲۰۲۴، اجتمع حوالي ۵۰۰ إلى ۶۰۰ شخص من ۵۲ دولة حول العالم في إسطنبول. كانت ثلاث سفن كبيرة جاهزة للانطلاق، وكان ‘تحالف أسطول الحرية’ يستعد للمرحلة النهائية. كل شيء كان جاهزًا للتحرك، وكان من المقرر أن تنطلق السفن في ۲۶ أبريل ۲۰۲۴٫

لكن قبل يوم أو يومين من المغادرة، حدث أمر قلب جميع الخطط. وصلنا خبر مفاده أن علم السفن قد أُسقط. علم السفينة بمثابة رخصة القيادة، وبدونه تصبح السفينة غير صالحة للإبحار. عدنا، أنا وشعيب، بخيبة أمل إلى منزلنا في ألمانيا.

لكن هذه لم تكن نهاية القصة. خلال هذه الفترة، عدنا للمشاركة في برامج وأنشطة أخرى في بلدان مختلفة، وشاركنا في حملات إعلامية واحتجاجات، وحاولنا معرفة أي السفن يمكنها الإبحار. حتى جاء مايو ۲۰۲۴، وكان من المقرر أن نُبحر بالسفينة “الضمير” من مياه مالطا. كنا مستعدين مجددًا، لكن للأسف، قبل ساعات فقط من الصعود، هاجمت طائرتان إسرائيليتان السفينة. حدث هذا في المياه الأوروبية، وكان على متن السفينة ۱۸ متطوعًا. لحسن الحظ، لم يُقتل أحد، لكن بعض الأشخاص أصيبوا بجروح.

عندما حان موعد انطلاق السفينة ‘مادلين’، لم يكن من المؤكد حتى اللحظة الأخيرة ما إذا كان زوجي من بين الأفراد النهائيين على متن السفينة أم لا، خاصةً أن ۱۲ شخصًا فقط تم اختيارهم. اثنا عشر شخصًا كانوا قادرين على تقديم المساعدة ولهم حضور فعّال. عمل شعيب، زوجي، لأشهر في تجهيز السفينة فنيًا، من طلاءها إلى تركيب نظام الكاميرات وحتى صنع الأسرة الخشبية. تم اختياره بسبب هذه المهارات، فحضوره كان نتيجة قدراته وجهوده، وليس الحظ!”

قصة امرأة بطلة تدعم سفينة المقاومة

عندما تم شطب اسم سميرة من قائمة المسافرين، لم تتراجع. أصبحت الآن جيشًا من شخص واحد، تدير شؤون السفينة عن بعد. دعم عائلات المشاركين، التغطية الإعلامية، الشؤون القانونية، والتواصل العام… كلها مهام تقوم بها، وكأنها لاصقة طبية على جرح الفراق، تمنحها قليلًا من الطمأنينة.

كنت أرغب بمعرفة كيف تمرّ أيامها، كزوجة ودّعت زوجها لرحلة محفوفة بالخطر. سألتها، فأرسلت لي إجابة بصوتها من ألمانيا إلى إيران:

قالت: “تلقينا ردود فعل جيدة جدًا من الأصدقاء المقربين، وخصوصًا من وسائل الإعلام، لكن لم يفكر الجميع مثلنا. حتى بين المسلمين، كان هناك من قال إننا نذهب إلى مهمة انتحارية، وأن جهودنا عبثية، وأن ما نقوم به لا فائدة منه، بل إننا نعرّض عملنا، وحياتنا، ومكانتنا السياسية للخطر دون داعٍ. حتى أن البعض اعتبر هذا العمل إثمًا.

ومع ذلك، لم أشعر باليأس. الله يكفينا. وبالطبع، كانت هناك أيضًا آراء إيجابية كثيرة جدًا، سواء من حيث الدعم البيروقراطي أو السياسي. نسأل الله أن تكون مهمتنا مؤثرة ومفيدة، سواء في عين الله أو لشعب غزة.”

عندما تكسر سفينة صغيرة أكبر جدار

اتصل شعيب من قرب غزة؛ لم يتبقَ سوى يوم واحد للوصول. هذا القرب زاد من أمل وقلق سميرة في آنٍ واحد.

كان لا بد أن أنهي المقابلة، بسبب اتصال شعيب من جهة، ومن جهة أخرى لأنها استمرت طوال الليل حتى أذان الفجر، وكانت سميرة مرهقة.

لكن قبل وداعها، أجابت على سؤالي الأخير:

سألتها عن المساعدات التي تحملها سفينة “مادلين” إلى شواطئ غزة، فقالت:

“أولًا، يجب أن أؤكد أن هذه الحملة لم تتلقَ أي دعم مالي من الحكومات. إنها حركة شعبية؛ متطوعون من ۵۲ دولة عملوا بكل طاقتهم منذ عام ۲۰۰۸ لتأسيس هذا التحالف. جميع المشاركين تطوعوا بالكامل في هذه المهمة، ولا أحد يكسب أي دخل من هذا الطريق.

جميع الأمور المالية مغطاة بالتبرعات الشعبية: شراء السفينة، تأمين الطاقم، تجهيز المواد والمستلزمات المرافقة للسفينة، كلها من هذه التبرعات.

سفينة ‘مادلين’ صغيرة، وتحمل مواد مثل المعدات الطبية، المياه، أنواع مختلفة من الأغذية، والطحين. حتى يد صناعية واحدة صنعها أحد المتطوعين، مرافقة للسفينة.

ورغم أن الكمية ليست كبيرة، إلا أن الأهم في هذه الحركة هی رمزيتها؛ أنه بعد سنوات من الحصار، أبحرت سفينة تأمل في كسر هذا الحصار.”

“الهدف الأساسي، يتجاوز كمية المواد؛ إنه كسر الحصار وصناعة نموذج للآخرين، كي يجدوا طريقًا للمقاومة وبثّ الأمل.”

أودّع سميرة، وأعلم أن الوقت قد حان لتتحدث مطولًا مع زوجها. خاصةً الآن، وقد أصبحت تهديدات إسرائيل أكثر ثقلاً لحظةً بعد أخرى.

لكنني ما زلت عالقًا هناك، بين كلمات سميرة ونبض قلبي القلق، بين الأمل الذي تحمله عباراتها والخوف الذي يتسلل أحيانًا من نبرة صوتها.

أشعر بالقلق، بل أشعر وكأنني في مكان سميرة نفسها. ومع ذلك، أعلم أنه حتى لو لم تنجُ سفينة “مادلين” من خبث إسرائيل، فإن أولئك الاثني عشر شخصًا… تلك الأسماء الاثنا عشر، قد اختاروا هذا المصير بكل فخر.

أما أنا، هنا، في مواجهة هذا الإيمان والشجاعة… فلا أملك إلا سؤالًا واحدًا كبيرًا:

ماذا فعلنا نحن؟

تعریب خاص لـجهان بانو من وكالة أنباء فارس