اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
هنا نحكي مع سيرين العبسي والدة الطفلة الشهيدة علياء أبو طاقية، لتخبرنا عن طفلتها وإصابتها، ولتؤكد لنا أن الغزيين ليسوا أرقامًا بل كل منهم له قصة وأمل وأمنية.
“واجهت زوجي وقلت له عد لي بابنتي أو التقط صورة لها إن كنت تقول لي أنها مصابة، خرج من الغرفة فتحاملتُ على نفسي وخرجت وراءه أبحث عن ابنتي ولكنه رآني وطلب مني الجلوس وقال لي
“مش أنت نيمتي عليا هي ضلت نايمة ما صحيت”.. لم أصدق وقتها أن علياء ذهبت بلا عودة، كان وقع الخبر قاسيًا عليِّ، كان قلبي يحترق بكل ما تعنيه الكلمة من معنى”.
“ليش حرمتني أودعها.. ليش ما حكيت من أول يوم، ليش تركتني لأملي”.. لامت سيرين زوجها ولكنه أخبرها أن الطبيب من منعه من إخبارها لسوء حالتها
عن يوم استهدافهم المباشر وإصابتها واستشهاد علياء تقول سيرين: “بعد رؤيتي لعلياء وهي بين يدي والدها عرفت أنها قد استشهدت، استيقظت في السيارة التي وضعوني بها للذهاب لمستوصف أبو يوسف النجار، كانت فوقي طفلة مصابة، نظرًا لكثرة الإصابات وقلة سيارات النقل، فكانت كل حركة لهاي تصيبني بالألم المبرح بسبب الشظايا التي خرقت كل مكان في جسدي فكان الوجع لا يطاق، وفور وصولي إلى هناك اعتبروني حالة ميؤوس منها، ولم يعرف أحد ماهية التعامل مع حالتي فتم نقلي لمستشفى الأوروبي، فحولني الطبيب إلى غرفة العمليات فورًا فما كان مني إلا أن قلت له “طمني على بنتي” فأخبرني بأنه سيخبرني بكل شيء بعد العملية”.
مرت أيام العلاج بالمشفى وحالة سيرين تسوء والآلام المبرحة تدك جسدها، وسؤالها عن علياء كل يوم يزداد حتى جاء اليوم الرابع الذي أصرت فيه سيرين أن ترى ابنتها علياء التي يدعي الجميع أنها بخير وتلعب في الخارج، كانت تود التصديق أنها حية ترزق، مع أنها رأتها لحظة الاستشهاد ولكنها أخبرت نفسها بأن كل هذه مجرد هلاوس، وأنها ستحتضن علياء لا محالة…
تضيف: “واجهت زوجي وقلت له عد لي بابنتي أو التقط صورة لها إن كنت تقولي لي أنها مصابة، خرج من الغرفة فتحاملتُ على نفسي وخرجت وراءه أبحث عن ابنتي ولكنه رآني وطلب مني الجلوس وقال لي: “مش أنت نيمتي عليا هي ضلت نايمة ما صحيت”.. لم أصدق وقتها أن علياء ذهبت بلا عودة، كان وقع الخبر قاسيًا عليِّ، كان قلبي يحترق بكل ما تعنيه الكلمة من معنى”.
“ليش حرمتني أودعها.. ليش ما حكيت من أول يوم، ليش تركتني لأملي”.. لامت سيرين زوجها ولكنه أخبرها أن الطبيب من منعه من إخبارها لسوء حالتها، فكان بينها وبين الموت خطوة واحدة فقط، فكان لزامًا عليه الحفاظ على حالتها النفسية وإخفاء أمر استشهاد طفلتها، بكت كأنها لم تبك من قبل لكنها ظلت تردد بأنها راضية بقضاء الله وقدره….
ظلت سيرين تخضع لعلاج طويل فكان ألمها الجسدي يزداد وجروحها المفتوحة تحرق روحها من شدة الألم، ولكن الجرح الأكبر كان فراق طفلتها الوحيدة، تقول لبنفسج: “عشت أول أيام الإصابة ما لم أعشه في حياتي، كنت أود أن يخلصني أي شيء مما أشعر به، فكان لدي عدة إصابات منها نزيف بالعين، واستئصال للطحال، وجرح في القولون، وكسر بالجمجمة، وشظايا الرأس والوجه والجسد كله، ولكن المصيبة الأكبر كانت فقدان الكتلة العضلية في الفخد، إذ لم يغلق الأطباء الجرح، فكانت عملية تعقيمه قطعة من الجحيم، فلم تكن من وسائل متاحة للتعقيم سوى الكلور، نصحني الطبيب بضرورة إجراء عملية فورية لإغلاق الجرح الكبير حتى لا يصل الالتهاب للعظم، وبالفعل بعد أسبوعين من الإصابة أجريت العملية، وبعدها سافرت لمصر ثم قطر لاستكمال علاجها”.
بدا صوتها مرتجفًا في حوارها معنا، فظهرت غصة القلب في صوتها، ومرارة الاشتياق في كل ذكرى وحدث قالته، وكلما قالت “علياء” ظللت اُسأل نفسي: كيف يرثي المرء طفله الوحيد؟ كيف يستوعب العقل فظاعة المحرقة؟ وكيف تشفى أمهات الشهداء من الجراح المفتوحة التي لا تندمل بمرور الزمن بل تزداد؟ تساؤلات لا أفق لها ولا إجابة.
في الطريق نحو الشفاء كانت سيرين تحاول التعافي من الإصابة الجسدية ولكن جروحها النفسية كانت أقوى بكثير، تضيف: “قبل استشهاد علياء بأيام كانت تظل تدور حول نفسها وتغني عليا ماتت عليا ماتت، فأركض نحوها وأقول لها “لا عليا عسل”.. فتردد ورائي، ألا يقولون أن الإنسان يشعر قبل موته لربما كانت طفلتي تشعر، في ليلتها الأخيرة طلبت مني أن تنام على غير عادتها، فاحتضنتها ونامت، وحينها نظرت لها وقلت: “كل شي وأنتِ معايا بهون، أنت أماني”.. ونمنا حتى سقط علينا الصاروخ”.
رحلت الطفلة علياء مشتاقة لعائلة والدها التي بقيت في شمال غزة، أما هي فكانت في جنوبها وتحديدًا رفح، كانت تظل تسأل عن رفيق اللعب وصديقها الصدوق وابن عمتها معاذ فتخبرها والدتها بأنه في الجنة، فتصمت وتنظر للسماء، من أول نزوحها وحتى استشهادها وهي تسأل يوميًا عنهم واحدًا تلو الآخر، تود أن تركض نحو جدها لتقول له: “بيب بيب” ليأخذها في جولة بسيارته التي تحب أن تتجول بها معه.
علياء الطفلة والشهيدة في عيون والدتها
“قبل استشهادها بأسبوعين كانت ترفض رفضًا تامًا أن تخلع نظارتها قبل النوم، فكانت تنام بهما يوميًا إلا ليلة الاستشهاد استغرقت في النوم فرفعتها جانبًا، استغربت أنها لم تستيقظ كعادتها، ولم أكن أعلم أنها ليلتنا الأخيرة وستظل النظارة المحببة لطفلتي تذكاري الوحيد منها”.
اليهود شتتوا شملنا فرقونا، خلوا بنتي تستشهد مشتاقة لكل الحبايب بس أنا بعرف كل شيء لحكمة يعلمها الله، كل اللي بدي أحكيه رح نظل نقاوم ورح نرجع نجيب ولاد من جديد، والحمدلله راضية بقدر الله”.
كانت سيرين تقطن مع علياء برفقة عائلتها في غرفة متهالكة سقفها من الاسبست وأرضيتها من الرمال في أرض برفح وبجانبها خيمة أعدها رجال العائلة لأنفسهم، فكان الأمر لا يروق لعلياء فتستيقظ مبكرًا جدًا وتركض نحو خيمة والدها وترفع الغطاء عنه وتنام بجانبه، ولا تفلح كل محاولات والدتها بثنائها عن ذلك لأن الجو يكون باردًا في ساعات الفجر الأولى.
ومن يحبنا كالأمهات! ومن يحترق لوجعنا مثلهن! ومن سيبكينا بعد الموت مثلهن! لم يكن تعلق أم علياء بها عاديًا بل تعترف أنها كانت مهووسة بها لا تطيق أن يتأذى ظفر منها، حينما تمرض أو ترتفع حرارتها كانت تقيم مجلسًا من حزن، تبكي وتبكي حد التعب، ويصيبها اكتئاب حاد، حتى أنها رفضت إنجاب طفل آخر يشارك علياء الحب وكل شيء وكانت تعلل ذلك: “لسا صغيرة ومحتاجة اهتمام”.
علياء التي يعرفها الجميع بنظارتها الملفتة للنظر لم تكن إلا بلسمًا لكل من تقرب منها، حنونة ومحبوبة، رثاها وبكاها كل الأحبة، تقول والدتها بصوتها المجروح: “كانت تضل تقلي حبك ماما لما أعصب عليها وتحضني، ولما كانت تشوفني برا بالشمس تيجي ترفع ملابس الصلاة على وجهي وتقلي ماما خبي من الشمس”.
تردف لبنفسج: “قبل استشهادها بأسبوعين كانت ترفض رفضًا تامًا أن تخلع نظارتها قبل النوم، فكانت تنام بهما يوميًا إلا ليلة الاستشهاد استغرقت في النوم فرفعتها جانبًا، استغربت أنها لم تستيقظ كعادتها، ولم أكن أعلم أنها ليلتنا الأخيرة وستظل النظارة المحببة لطفلتي تذكاري الوحيد منها”.
لم يكن سهلًا عليها رؤية طفلتها طوال أيام الحرب خائفة، فكان شعور قلة الحيلة قاسيًا عليها، مع كل غارة إسرائيلية تركض نحو والدتها لتحتضنها وهي ترتعش من أصوات القصف الشديد، فتطمئنها سيرين ببضع كلمات.
إن فقدان الأبناء أشد وطأة على النفس من أي شيء آخر في الدنيا، يشعر المرء أن روحه انطفأت للأبد، كان رحيل علياء بمثابة ضربة مميتة لوالدتها ولكنها صمدت بقدرة الله الذي دب في روحها السلوان، فقدت سيرين البيت والمال والابن، حتى مقتنيات علياء دفنت تحت ركام بيتهم المقصوف في شارع الجلاء بغزة، والتي كانت تود الطفلة أن تركض نحوه لتجلب حقيبتها الصغيرة التي تعز عليها، لم يبق لسيرين من طفلتها إلا بضع صور، ونظارتها التي طالها صاروخ الاحتلال وخدشها وكسر عدستها، ولكنها ما زالت تحتفظ بها كتذكار أبدي من ابنتها الأولى.
تختم سيرين حديثها لبنفسج: “اليهود شتتوا شملنا فرقونا، خلوا بنتي تستشهد مشتاقة لكل الحبايب بس أنا بعرف كل شيء لحكمة يعلمها الله، كل اللي بدي أحكيه رح نظل نقاوم ورح نرجع نجيب ولاد من جديد، والحمدلله راضية بقدر الله”.