فيلم “سلمى” لجود سعيد.. المرأة السورية في مواجهة واقع قاتم

يوظف المخرج السوري جود سعيد أحداثا من الواقع ليصنع سينما روائية تهتم بنموذج من الإنسان السوري الذي يكافح من أجل البقاء متحديا الظروف القاهرة، وهو في فيلم "سلمى" يركز على المرأة السورية وقدرتها على التضحية من أجل الدفاع عن عائلتها ومجتمعها.

منذ عام ۲۰۰۷ يشتغل المخرج السوري جود سعيد على إثبات اسمه في عالم الإخراج للسينما والتلفزيون، حيث صور العديد من الأفلام والمسلسلات، لكن الكفة إلى حد اليوم ترجع إلى صالح الفن السابع، إذ وجد المخرج الشاب الدعم من المؤسسة العامة للسينما في سوريا (حكومية) التي دعمت أفلامه منذ أكثر من عقد، وتحديدا منذ عام ۲۰۱۴، حيث وظف رؤيته وتكوينه الأكاديمي في السينما لصناعة أفلام تتناول الواقع السوري وتأثيرات الحرب في أبناء وطنه.

بعد فيلم “مطر حمص” الذي صدر في عام ۲۰۱۴، و”بانتظار الخريف” عام ۲۰۱۵، و”رجل وثلاثة أيام” عام ۲۰۱۶، و”درب السما” عام ۲۰۱۷، و”نجمة الصبح” عام ۲۰۲۱، و”رحلة يوسف” عام ۲۰۲۲، جاء فيلم جود لعام ۲۰۲۴ بعنوان “سلمى”، ويثري تجربته السينمائية بتناول الواقع السوري من بوابة مختلفة هذه المرة هي الزلزال، عبر نموذج من المرأة السورية وتضحياتها في سبيل حياتها وحياة أبناء بيئتها.

تلعب الممثلة سلاف فواخرجي بطولة الفيلم الذي يعيدها إلى السينما بعد غياب عنها منذ عام ۲۰۱۷، بالإضافة إلى عدد من الفنانين، من بينهم المخرج الراحل عبداللطيف عبدالحميد وحسين عباس ومجد فضة ونسرين فندي ومغيث صقر وشيراز لوبيه وحسن كحلوس وباسم ياخور كضيف شرف.

ويمنح جود في هذا الفيلم الفرصة للممثل الشاب ورد عجيب ليلعب أول دور سينمائي له بعد أن حقق نجاحا كبيرا في رمضان الماضي في دور جود الطفل المصاب بالتوحد في مسلسل “أغمض عينيك”، وشارك في بطولة المسلسل إلى جانب منى واصف وأمل عرفة وعبدالمنعم عمايري.

“سلمى” كما اختار المخرج أن يعنون فيلمه، يروي لنا قصة سلمى المعلمة التي تشتغل في اللاذقية، “قاهرة الزلزال” كما يسميها الناس، المرأة السورية الشجاعة التي لفتت الأنظار إليها خلال الزلزال الذي ضرب سوريا ودمر أحياء سكنية كبيرة مدمرا معها أحلاما وحكايات وأسرا وعلاقات عاطفية. هي امرأة هبت لمساعدة أبناء حيها رغم فقدانها زوجها وأختها وزوج الأخت، فصارت بفضل فيديوهات السوشيل ميديا بطلة شعبية يثق بها الناس وتدافع عنهم كلما سنحت لها الفرصة.

تفقد سلمى زوجها، لم تجد جثته ولا تعرف أين اختفى، تشير أبحاث الحكومة إلى أنه غادر البلاد وعليها إثبات عكس ذلك. تنتقل إلى العيش مع عمها (والد زوجها) أبي ناصيف (عبداللطيف عبدالحميد)، يتشبثان معا بأمل أن ناصيف حي لكنه ربما يكون سجينا، يتنقلان كلما أعلن عن تحرير بعض السجناء لكن ناصيف لا يكون بينهم. تتسع شهرة سلمى ويعرف كل السوريين حكايتها ويتخذونها رمزا للمرأة القوية والشريفة والمناضلة.

تكافح المعلمة لتضمن عيشا كريما لعمها العجوز وابنها أمجد وابن أختها جميل الذي تعجز عن استخراج جواز سفر له، فرغم أنها تربيه إلا أن القانون يمنح الوصاية لأعمامه. تتعرض لعمليات نصب حيث يستغل أحد المهربين رغبتها في إيجاد زوجها. تواجه المرأة الكثير من المشكلات كان آخرها الصدام مع أبي عامر (باسم ياخور) وهو رجل صاحب نفوذ اكتسب ماله ونفوذه من المتاجرة بآلام السوريين، هو نموذج من أثرياء الحرب الذين استغلوا الانفلات في البلاد من أجل الربح والاغتناء السريع.

تتسارع الأحداث وتجد سلمى نفسها مترشحة لتمثيل الطبقة المهمشة في مجلس الشعب، يدعمها أهل القرية وصحافية شابة مستثمرين شهرتها جراء الزلزال، لكنّ أبا عامر يبتزها بابنيها اللذين يشتغلان عند مهرب يعمل عنده، فتضطر إلى التخلي عن منصبها وتعود إلى نقطة الصفر، في نهاية العمل تركت الفيلم مفتوحا ولم تجد زوجها بين المسجونين والمهاجرين والشهداء.

الفيلم درامي لكنه لا يخلو من مسحة الكوميديا السوداء التي يضمنها جود سعيد في أغلب أعماله السينمائية ليعبر عن الواقع المؤلم الذي تعيشه سوريا منذ سنوات. هذه المرة يوجه كاميرته نحو النساء حيث يصور بشكل بسيط وعفوي تداعيات الأزمة السياسية والاقتصادية عليهن، وكيف اضطرت الحرب العائلات إلى تحمل ظروف عيش صعبة.

في الفيلم هناك طبقة فقيرة تسد رمقها بوجبة الطعام ذاتها طوال سنوات، يحلم أبناؤها بـ”ساندويش شاورما”، يسرقون الحطب للتدفئة والطبخ، في مقابل طبقة غنية (يمثلها أبو عامر وجماعته) تنعم برغد العيش. هناك أطفال أذكياء مجتهدون اضطرتهم الظروف إلى مغادرة مدارسهم مقابل أطفال أغبياء يدفع أهلهم أموالا طائلة كي يضمنوا لهم نجاحا مزيفا. وهناك طبقة مهمشة فقيرة تقمعها السلطة مقابل طبقة أخرى وجدت السلطة لخدمتها.

في وسط كل هذا يظهر المثقف النخبوي (حسين عباس)، الرجل المتمرد على الأعراف والمنتقد للواقع والمتشبع بالمفاهيم الفلسفية والمعارف العلمية والتاريخية، يصوره المخرج على أنه بصدد كتابة رواية عن قصة حب “سلمى وناصيف”، فيجعله راويا لأحداث سابقة لم يستخدم سعيد تقنية الاسترجاع/ الفلاش باك لعرضها، فكانت حكاية الراوي/ المثقف موضحا لها.

يظهر الممثلون أداء مقنعا ما عدا باسم ياخور الذي يبدو أداؤه مبالغا فيه نوعا ما. يأتي أداء الممثلين في المشاهد الثنائية والجماعية منسجما ومتناغما، يمنح المخرج لكل واحد منهم مساحة كافية ليوضح ملامح شخصيته وسلوكياتها. أظهر ورد عجيب قدرة على تمثيل كوميديا الموقف، بعد تفوقه في الدراما خلال رمضان الماضي، كذلك كان حضور المخرج عبداللطيف عبدالحميد ممثلا مهما وأظهر تمكن الفنان الراحل من تقمص دور الأب العجوز الحكيم، المضحي، الخدوم والكوميدي أيضا بهدوء وبساطة وإقناع.

هذا الفيلم جاء إهداء لعبدالحميد، المخرج السوري الاستثنائي الذي أخرج العديد من الأفلام المهمة في السينما السورية ورحل عن عالمنا في مايو ۲۰۲۴٫

ويعزز المخرج الحبكة الدرامية للفيلم بقصص حب وبقيم اجتماعية كثيرة تظهرها الشخصيات كالشهامة والنبل والشجاعة والصدق والاتحاد والأبوة والأمومة والصداقة، تجتمع كلها لترسم نموذجا سينمائيا من عائلات سورية كثيرة، في مقابل سلوكيات أخرى كالكذب والخداع والاستغلال والغرور والخوف، وكلها صفات عززتها الحرب والزلزال.

هذا الزلزال الكارثي يصوره الفيلم على أنه أصبح شبحا مخيفا يرتعب منه الأهالي، فكلما صرخ الطفل جميل “هزة، هزة” ركض الناس خارج منازلهم خوفا من الموت. حدث وظفه المخرج في إضفاء بعد كوميدي على الفيلم.

والسينما عند جود سعيد روائية مستوحاة من الواقع، بمشاهد متناسقة وسلسة وحوارات عميقة وأحداث مترابطة، تظهر كلها سيناريو الفيلم متماسكا يوصل الرسالة إلى المشاهد دون أن يصيبه بالملل أو ينفره من متابعة الفيلم حتى آخره، هناك يترك له نهاية مفتوحة يصوغها كما يشاء وكيفما أرادت مخيلته.

وهو يصور في هذا الفيلم كما في أفلامه السابقة مشاهد من اليومي في سوريا، مناظر طبيعية للريف السوري، كادرات تصوير تركز على مؤسسات الدولة، وسائل النقل العمومي، الاحتياجات اليومية للناس، حاجتهم إلى الكهرباء والغاز، وتقييمهم للأوضاع من حولهم بلهجة حادة وساخرة.

ورغم أن جود سعيد اشتغل في أفلامه السابقة، وتحديدا منذ ۲۰۱۴، على تصوير أثر الحرب على الحياة في سوريا، إلا أنه منذ سقوط نظام الرئيس بشار الأسد يواجه اتهامات كبيرة بلغت حد التنديد بأعماله والدعوة إلى مقاطعتها ومحاسبته ومطالبة أيام قرطاج السينمائية في دورتها الـ۳۵ بإلغاء عرض فيلم “سلمى”، لكن إدارة المهرجان لم تبال بذلك.

قد يختلف البعض معه أو يتفق، هو في نظر بعض الفنانين مخرج استثمر قربه من السلطة لينتج أفلاما تدافع عن النظام السياسي ورؤيته لمجريات الأحداث في سوريا، يهاجمه البعض بناء على ذلك، لكن أفلامه قد تبدو لمن هم خارج سوريا أو غير السوريين أعمالا فنية تصور حكايات مستوحاة من الواقع كما يراه مخرج العمل، وليس بالضرورة أن يكون ما يؤمن به جود سعيد ويدافع عنه هو ما يدافع عنه الجميع.

أفلام سعيد اقتنصت جوائز مهمة من مهرجانات عربية ودولية، هو واحد من جيل شاب درس خارج سوريا حيث تلقى تكوينه الأكاديمي في مجال السينما بفرنسا، ثم عاد ليجد نظاما جاثما على صدور شعبه، نموذج من جيل كان يتلمس أولى خطواته المهنية وربما لم يكن أمامه إلا أن يسعى نحو حلمه أو أن يتراجع وينساه، فالأنظمة السياسية في دولنا العربية لا تمد يدها لمن يعاديها، فإما أن تكون معها أو ضدها. وفي النهاية العمل الفني يمكن أن يرد عليه بعمل فني مناقض، والفكرة تواجه بفكرة مضادة لا بدعوة إلى الثأر من صاحبها.

المصدر: العرب