اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
تراكمت لدي أسئلة كثيرة، كنت أعلم جزءًا من إجابتها، وأعلم أن جزءا منها مركبًا يصعب علي إدراكه. فكيف يسمح الكبار بحدوث قتل شاب، أو اعتقال أبي، أو رفع علم ليس لبلدي!
ولكن الحقيقة أن الطفل الفلسطيني يتعرض يوميًا للعنف الجسدي واللفظي والنفسي بسبب الاحتلال، وهذه أسئلة تطرح على العالم أجمع؛ فلماذا يسجن والد طفل وبأي حق، ولماذا ترفع البندقية في وجه المارة العاديين في الطريق، ولماذا تداهم البيوت ليلًا وهم نائمون، لماذا تلقى آلاف الأطنان من المتفجرات على جسده الصغير!
المداهمات والتفجيرات والمصادرات والسرقات والاعتقالات والحواجز هي مظاهر الاحتلال الهمجي التي يشهدها الطفل يوميًا في فلسطين، ولكنه، في أغلب الأحيان تتجاوز ردة فعله تحليلات علوم النفس والاجتماع أو نظرياتها، فالطفل الفلسطيني يخاف عندما يشهد جنديًا يشهر سلاحه أمامه، ولكنه يظهر أيضًا جسارة الطفل الذي تعود المشهد وفهم ماهية الأحداث وإن كانت معقدة أمام عقله الصغير.
وربما تقول التفسيرات إن هذا نوع من التكيف مع أحداث خلقها الاحتلال في بيئة الحرب، ولكن هذا لا ينفي بالطبع أن الطفل في بنيته وشعوره وعاطفته وقدراته عن التعبير عنها تجعل سؤالنا عن حالته ووضعه النفسي بلا إجابة أحيانًا، فهذا الصغير بجسده الطري وعقله الغض لا يريد سوى أن يفهم أنه لا زال طفلًا يريد أن يلعب وأن يذهب إلى المدرسة كل صباح، أن يلهو مع أصحابه في ساحة البيت وأطراف الحي.
ومع ذلك نجد الأطفال الفلسطينيين جزء أصيل من المشهد، يحملون الحجارة، يشاركون في المسيرات، يلقون القصائد، يغضبون، يبكون، ويرسلون رسائل غاية في الأهمية، سمعناها على لسان إخوة الشهداء وأبنائهم. وهناك عدد لا بأس به من الأطفال القاصرين المعتقلين من الضفة الغربية وغزة، من الذين اختطفوا مع بدء حرب السابع من أكتوبر.
ولأطفال غزة حديث آخر إذ أنهم في بيئة حرب تمارس فيها الإبادة الجماعية وآلة عسكرية متواصلة، يموتون بردًا وجوعًا وقتلًا. وهم متسهدفون في هذا القتل فمعظم الشهداء هم من الأطفال. فما حال طفل فقد عائلته ونجى وحيدًا مبتور الأطراف، هل يستوعب عقله ما حصل! كيف سيكبر وماذا سينبني في عقله. وماذا عن الطفل الذي أنجب في المعتقل وأبصر الحياة سجينًا… وعن الطفل الذي اختطفت أمه أما عينيه، كيف سيفهم أنه لن يراها وبأي حق؟
أذكر تمامًا أنني كنت في عمر الخامسة عندما اقتحم الاحتلال بيتنا، قيدوا إخوتي الذكور خارج البيت، كان الجو في غاية البرودة وهم يرتدون ملابس النوم الرقيقة، فتشوا البيت شبرًا شبرًا، وضعوني نحن الصغار في زاوية البيت المظلمة وظلت أمي تحوم حولنا وتحاول تهدئتنا وطمئتنا وأن كل شيء على ما يرام، وفي الحقيقة لم يكن أي شيء بخير. أغمضوا عيني والدي وقيدوه، كان عددهم كبيرًا… وبدأت أمي تقول: شو بدكم في، وين ماخيدنه، حسبي الله ونعم الوكيل. عرفنا عندها أنهم أخذوا أبي معتقلًا.
كثيرًا ما رافقنا أمي في رحلتها إلى سجن مجدو، وكنت أعلم في سن صغير أنهم يتوجهون إلى الصليب الأحمر للحصول على تصاريح. كنا نحن أهالي الأسرى من الكبار والصغار نركب باصًا كبيرًا من وسط رام الله، نوجه في رحلة عبر مرج ابن عامر في طريقنا إلى سجن مجدو، ولا أنسى المشاهد حتى الآن… نصل إلى ساحة كبيرة مسيجة للتفتيش، ومرحلة التفيش ليست واحدة وكلها امتهان وتعذيب لأهالي الأسرى يحظون بعدها بلقاء الأحبة، يقضون معهم أقل من ساعة يذهب نصفها في بكاء الكبار…
وأذكر في صغري مسيرة حاشدة يزفون فيها شهيدًا من قريتي، كان الرجال يكبرون، والنساء يزغردن، أذكر أن البلدة قامت عن بكرة أبيها يومها، لم يبق أحد في بيته. وكنا نمر يوميًأ عن حوجز إسرائيلية والمستوطنات تطوق قريتي من كل الجهات، يوقفون المركبات ويطلبون الهويات وقد يوجون بنادقهم إلى الركاب، هكذا دون سبب. وكنت أرى العلم الإسرائيلي مرفوعًا في أماكن عدة…وأتساءل لماذا يرفع علم غير علم فلسطين.
أذكر تمامًا أنني كنت في عمر الخامسة عندما اقتحم الاحتلال بيتنا، قيدوا إخوتي الذكور خارج البيت، كان الجو في غاية البرودة وهم يرتدون ملابس النوم الرقيقة، فتشوا البيت شبرًا شبرًا، وضعوني نحن الصغار في زاوية البيت المظلمة وظلت أمي تحوم حولنا وتحاول تهدئتنا وطمئتنا وأن كل شيء على ما يرام، وفي الحقيقة لم يكن أي شيء بخير. أغمضوا عيني والدي وقيدوه، كان عددهم كبيرًا…
هذا يعني أن الطفل الفلسطيني يحفظ في ذاكرته الأحداث التي يشهدها ويبني له وعيًا يتكون من مدركات هذه المشاهدات، ولا يخلو بيت فلسطيني من شهيد أو معتقل أو جريح، ولكنه يظل بحاجة إلى تبسيط بعض الإجابات التي تطرق عقله مرارًا. وربما تعكس الأحداث بنية الطفل الفلسطيني الذي كبر مع فلسطين المحتلة، وتتراكم آلامها في داخله، لذلك هو جيل قادم مقاوم، وهذا يعني أنه يعلم إلى ما سيصير عندما يكبر.
المصدر: بنفسج