اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
تعيش من الضغط النفسي ما يفوق طاقتهن على التحمل، يصفن الزنزانة ب “القبر”، ولا أبشع من هكذا توصيف، فماذا يعني أنتُسجن لسنوات دون أن تعرف ما الذي يجري بالخارج، أن تُهدد بالولد والأب والبنت والنفس.
وهذا حوار مع الأسيرة الفلسطينية المحررة رولا حسنين، لتحكي عن التعذيب والترهيب الذي واجهته في الزنازين الإسرائيلية، عن الاشتياق لطفلتها التي تركتها بعمر التسعة أشهر، والأسوار التي طبقت على صدرها جبالًا لا تتزحزح، شعرت بقرب النهاية، انبعث لها ضوء من آخر النفق التي تسكن على شاكلة وجه طفلتها إيلياء.
في ۱۹ مارس/آذار ۲۰۲۳ داهمت قوات الاحتلال الإسرائيلي بيت رولا بعد الثانية من منتصف الليل، واعتقلتها بطريقة وحشية، تقول ل “بنفسج”: “استيقظت على أصوات الجنود وهم يقتحمون المنزل بصورة وحشية، ويأمرونني بالخروج معهم، رفضت الانصياع وأخبرتهم أني طفلتي رضيعة ولا يمكنني تركها، رفضوا أن أجلبها معي، ومنعوني من وداعهم، كان كل ما يمهني في تلك اللحظة إيلياء، نظرت لها فابتسمت لي فكانت ابتسامتها آخر ما رأيت”.
كان الحمل في إيلياء وتوأمها يوسف شاقًا للغاية، وخصوصًا أنها تعاني من مرض في الكلى إضافة إلى عدة أمراض أخرى جعلت وضعها الصحي حرجًا. وقبل الولادة بوقت وجيز نُقلت للمشفى لسوء حالتها، فأجبر الاطباء على إدخالها لغرفة العمليات في حالة ولادة مبكرة للحفاظ على حياتها وحياة التوأم، ولكن مات يوسف بعد ثلاث ساعات،- وعاشت إيلياء التي بقيت تعاني من مشاكل في جهازها التنفسي.
ظلت رولا طوال التسعة أشهر تدللها، وتهتهم بصحتها حتى يوم الاعتقال، فانفصلت الأم عن طفلتها التي لا تنام إلا بين أحضانها، عانت رولا بالأسر كثيرًا من شوقها، وكما يُقال الشوق قتال، فما بين الضغط النفسي وغرف التحقيق، ساءت حالتها النفسية، ووجدت نفسها تنسى ملامح طفلتها، فدب الرعب في قلبها.
تضيف ل “بنفسج”: “تقدمت بطلب للمحكمة لرؤية ابنتي إيلياء ولكن تم رفضه، وبعد مشادات وضغط من المحامي الخاص بي أراني صورة على هاتفه لها، كانت تقف على قدميها لأول مرة، خرجت من القاعة أبكي بكاءا هستيريًا”.
عاشت في السجن عشرة أشهر من الجحيم، تعرضت للتعذيب والتنكيل، تعقب: “تم الاعتداء علي بكل الطرق سواء نفسيًا أو جسديًا ولفظيًا، أخذوا منا ملابسنا الشرعية بالقوة، فلم يتبق معنا سوى لبسة شاباص واحدة للشتاء والثانية للصيف، وكنا نستر أنفسنا بالحرامات الشتوية، وإضافة لذلك منعوا قصاصة الأظافر عنا فكنا نقصهم بأسناننا، والمشط أيضًا، فاستخدمنا الشوكة البلاستيكية التي نأكل بها لتمشيط شعرنا”.
تم الاعتداء علي بكل الطرق سواء نفسيًا أو جسديًا ولفظيًا، أخذوا منا ملابسنا الشرعية بالقوة، فلم يتبق معنا سوى لبسة شاباص واحدة للشتاء والثانية للصيف، وكنا نستر أنفسنا بالحرامات الشتوية.
لم تكن أي من مقومات الحياة داخل الأسر، نوعية الطعام ردئية وقليلة، مواعيد دخول الحمام للاستحمام محدودة، ولم يقتصر الأمر عند هنا فحسب، بل منعوا من التواصل مع العالم الخارجي، لا يعلمون شيئًا مما يجري في الخارج إلا أن جلبوا أسيرة جديدة، وكن يمنعن وينكل بهن لعدم الإدلاء بأي معلومة للأسيرات في الداخل.
وبين أروقة التحقيق تعرضت لهجمة شرسة من الضباط، بتهمة التحريض على مواقع التواصل الاجتماعي، وجلبوا لها منشورات تعود للعام ۲۰۲۰، تضيف: “لقد تم تهديدي في التحقيقات بعائلتي كل باسمه، وبابنتي تحديدًا، إضافة لتعذيبي وقمعي، ومنع الأهل من الزيارة، مما زاد العبء علي”.
لم تفقد رولا أملها يومًا بالحرية، كل يوم تقول غدًا سنتحرر لكن لا يأتي، حتى أتى بشكل فجائي، تقول ل “بنفسج”: “كانت لحظة كالحلم ونحن في طريقنا نحو الحرية، وعلى الرغم من تعرضنا لتهديدات وتنكيل جسدي ومحاولات لبث الرعب في قلوبنا إلا أننا كنا فرحين أننا على بعد سويعات من رؤية الأهل”.
عانقت رولا أحبتها لتروي ظمأ العام، رأت ابنتها إيلياء التي كبرت بعيدًا عن عينها، فلم تشهد أول خطوة لها وأول كلمة، توقعت أن لا تعرفها الصغيرة لحظة اللقاء، وبالفعل لم تقبل إيلياء عليها على الرغم من أن والدها يحرص على عرض صور رولا علي الصغيرة، لكن حدث ما خافته، والآن تحاول مع الصغيرة لكي تبدأ بالاعتياد عليها من جديد.
“حزينون لأجل الدم الفلسطيني.. لكن في يوم تحرري أقول أعز الله من أعزنا وأكرم من أكرمنا”
لم تنظم عائلة رولا أي مشهد من مشاهد الاستقبال كرمة لدماء شهداء غزة، وعبرت قائلة: “حزينون لأجل الدم الفلسطيني.. لكن في يوم تحرري أقول أعز الله من أعزنا وأكرم من أكرمنا”. أرهقت جسديًا للغاية وهي تنتظر رفقة الأسيرات لحظات تسليمهم للصليب الأحمر، تجمدت من برد يناير، وهي ترتدي ملابس خفيفة، إذ تركوهم في العراء لأربع ساعات.
تقول: “توجهت للمشفى بعد رؤيتي للأهل لأنني كنت أعاني من وضع صحي سيء للغاية”. الآن رولا حرة على الاسفلت بعد ما يقارب العام من عتمة الزنازين، ترتب حياتها من جديد، لتعيش مع زوجها شادي وطفلتها بأمان، ولم ولن تنس وجوه الأسيرات التي تركتهن خلفها.
وعند سؤالها، ماذا عن أسيرات غزة اللواتي من معك؟ أجابت: “كان معي بالدامون ثلاثة أسيرات، يعذبن وينكل بهن جدًا، كونهن من غزة، هن سهام أبو سالم، وسوزان الآغا، وأسماء شتات، لا يعلمون أي شيء عن عائلاتهم ولا يسمح لهن بالزيارة، حالة سوزان سيئة جدًا لأنها اعتقلت من الشارع وأجبرها الجيش على ترك طفلها الرضيع، أما أسماء تركت ۳ اطفال ورائها وتم اعتقالها مع زوجها المصاب، كنا نحاول طمأنتهن بشكل دائم لكن المصاب جلل”.
المصدر: بنفسج