ظلان على عتبة الغياب.. قصة أم غزية في زمن الإبادة

اسمي سماح، امرأة غزية أثقلتها فظائع الحرب، ثم أمسيت اسما دفينا في فصولها التي تأبى التوقف.. أم لخمسة أطفال؛ عشت لأجلهم ورحلت عنهم دون موعد.

بين أمومتين: الحلم والحرب

قبل الفواجع التي حلت بي وبعائلتي كنت أما مثالية لثلاثة أولاد وابنتين؛ أحرق روحي كل يوم لأجلهم، أداعب جدائل حلا وزينة، ثم أغرق في تفاصيل وجه فوزي المصاغ من ملامح والده؛ زوجي «عمر» الذي يمشي في الدنيا بهدوء كنسمة لا تثير غبارا.

أما طفلي محمد فكان يخطو بثقة في عالمه الفتي، يتقدمه شيء من الرجولة الصغيرة، بينما أمير يتبعه بخفة ولهو الطفولة؛ كأنهما شمس وقمر في سماء واحدة، يكمل أحدهما نور الآخر، يلتفان حول بعضهما كما يلتف الغصنان حول جذع واحد، هما مختلفان في الطول لكنهما من أصل واحد، تجمعهما ملامح الدم ويفرقهما فرق السنين، فيبدو أحدهما ظلا ممتدا للآخر.

تراكمت أثقال الدنيا كلها فوق كتفي حين اشتعل المحتل فتكا وقتلا وتدميرا. أحضن أطفالي كأنني سأحمي عظامهم من أن تنصهر بلظى القصف الذي كان ينهمر كذئب جائع، ينهش الأرض والبيوت دون رحمة.

تتساقط القذائف من حولنا بجنون، كأنها نار أطلقت من فم وحش لا يشبع، وارتجت السماء بصوت هائج يقصف كل ما تحته كغضب أعمى. كانت الصواريخ تضرب البشر والحجر كمن فقد صوابه، والرصاص والمتفجرات يهطلان كعاصفة شيطانية لا تميز بين طفل بريء وشيخ قعيد وسيدة بلا حول.

وسط هذا الجنون كنا بالكاد نلتقط دقائق من النوم؛ فكل صاروخ يحمل معه اسم مجزرة جديدة، تزف ضحاياها شوارعُ غزة وبناياتها المتساقطة تباعا، وسكانها المروعون المجوعون.

كان أمير وزينة يقضيان أوقاتهما في البكاء وطرح التساؤلات البريئة عن الجنة؛ أسئلة كادت تفتك بعقلي، فلا أطيق وداع أي من خمسِتي، ولا أتصور فكرة الفراق فأجدني أدعو بخوف ألا أفجع بهم. لم أدر حينها أنني من ستغادرهم وتتركهم يتجرعون ألم الفقد ونار الشوق المستعرة.

احتضنت أطفالي مجددا وانتحبت حزنا وكمدا؛ سألني أمير: «ماما، وين تيتا؟» كيف أخبرك يا صغيري أن جدتك التي تحبها وتنتظر زيارتها، والتي تعطيك خلسة عنا مصروفا إضافيا، وتجلسك في حضنها الدافئ، قد أضحت جسدا مسجى تحت أنقاض بناية كاملة؟

مجزرة الشيخ رضوان: خمسون روحا تحت الركام

في قلب “تشرين”، وبعد أيام قليلة من اندلاع أبشع حرب سجلتها صفحات التاريخ، كانت عائلة زوجي مجتمعة في بنايتها السكنية في حي الشيخ رضوان -ذلك الحي الذي شاهد فظائع القصف والحرق والتدمير؛ فلم يعد كما كان، ولم يعد سكانه كما هم.

صاروخ احتوى أحقادا لا بارودا، ملتهبا بعقيدة الانتقام ومذخرا بتراتيل الهجوم على كل نفس بريئة، أصاب البناية التي ضمت والدة زوجي وأبناءها وأحفادها.

خمسون روحا حلقت في لحظات لتعانق سماء غزة وترحل شاكية ظلمَ مَن ظلمها.. أشقاء عمر وشقيقاته وأطفالهم، بل وحتى الجيران- كلهم رحلوا، ولم تبقِ لهم الغارة ظل حياة يتمسكون به.

خمسون روحا تناثرت ضحكاتها الأخيرة، جلساتهم التي كانوا يؤنسون بعضهم بها، أصوات لهو الأطفال معا، صدى فناجين القهوة وهي تطرق بعضها انسجاما مع أحاديث الكبار، هدهدة الأمهات لقطع من قلوبهن ليدخلوا عالم النوم.. وما أشقاها من مهمة في غمرة القصف الجائع!

خمسون روحا صمتت مرة واحدة؛ فلا صوت يسمع من تحت الركام: لا شقاوة خليل، ولا ضحكات ندى، ولا حديث إبراهيم، ولا تمتمات دعاء نور التي كانت تنتظر وضع مولودها بهدوء.. كلهم رحلوا وتركوا جمرة الحزن في قلوبنا.

حين وصلنا خبر المجزرة انهار عمر بالبكاء فشعرت بقلبي يتمزق قهرا وألما؛ شريط حياة كامل من ذكريات كنا على موعد مع وداع مفاجئ لم نستعد له، كأننا نرجو من الموت أن يرفق بنا ويستأذن قبل أن يحدث فينا ندوبا لا تزول.

احتضنت أطفالي مجددا وانتحبت حزنا وكمدا؛ سألني أمير: «ماما، وين تيتا؟» كيف أخبرك يا صغيري أن جدتك التي تحبها وتنتظر زيارتها، والتي تعطيك خلسة عنا مصروفا إضافيا، وتجلسك في حضنها الدافئ، قد أضحت جسدا مسجى تحت أنقاض بناية كاملة؟

كيف أخبرك أنها وأعمامك وعمتك وأبناءهم الذين كنت تسألني ألف مرة عن موعد زيارتهم، قد أصبحوا ركاما تحت الركام؟ كيف يستوعب عقلك الصغير كل هذه التفاصيل الموجعة؟

وداع بلا وداع.. فالأجساد ما زالت حبيسة تحت الأنقاض؛ ذلك المصطلح البارد الكئيب الذي التصق بحياتنا، وزاد من ثقله صمت مريب أخرس العالم برمته، فأصبح الغزي يصارع بعظمه ولحمه أحدث ما تفتقت عنه تكنولوجيا السلاح، بينما الكل شاهدٌ اختار البقاء في بيته الدافئ أمام شاشة تلفاز تنقل صور نعوشنا منذ عامين، ولم تتحرك فيهم خلية ذود ولا قطرة كرامة.

مرت أشهر الحمل ببطء ثقيل؛ كنت أحاول مواساة نفسي وعائلتي بينما قلبي يبطئ الخفقان ويتشبث بأي أمل. كنت أعتقد أن الأم قادرة على تبديد خوف صغارها مهما كبر، لكن بين أنياب الإبادة لم تجد الأمهات سبيلا لذلك

نزوح قاسٍ ومدرسة بلا ملامح حياة

مرت بضعة أشهر بعد المقتلة وحملت في أحشائي طفلا جديدا؛ ويا له من شعور متضارب… ستزيد عائلتنا طفلا جديدا، لكنه سيكون مولودا في إبادة لم تترك للهواء متسعا في صدورنا.

قضيت أيامي أفكر في الولادة المرتقبة، وفي هذا الطفل الذي سيبكينا جميعا حين نقصّ عليه حكاية الأرواح الخمسين التي لا تزال تحت الأنقاض.

حاولت جاهدة أن أمنح هذا الطفل طاقتي كلها، لكن أي طاقة تلك والحياة عادت بنا إلى ما قبل الحداثة وثورات الكهرباء والمحركات؟ أي طاقة لي وعائلة زوجي كلها مسجاة تحت أطنان من حجارة؟

بدأ الاجتياح البري لمنطقتنا فآثرنا النزوح من بنايتنا إلى مدرسة قريبة نستنشق منها شيئا من أمان؛ كل الوجوه شاحبة، كل الملامح تقطر حزنا وجوعا ورعبا.

كنت في أشهر الحمل الأولى- وكم كنت مرهقة!- أمكث مع أطفالي وعدة عائلات أخرى في غرفة صف واحدة؛ أنظر إلى اللوح تارة ثم إلى وجوه أمير وفوزي ومحمد وزينة وحلا: كم أغرقتكم الحرب في ثوبها الأسود، ونزعت عنكم حقكم البسيط! أستعيد أيام الدراسة وحفظ القرآن وحياتنا الوادعة معا… من يعيدها لنا؟ هل تعود حقا؟

أتى عمر يبحث عني؛ أخبرني بصوته الهادئ المنكسر أن بنايتنا قد قصِفت. حمدت الله أننا خرجنا قبل القصف، لكن قلبي ظل معلقا بمنزلي – بمطبخي وعلب البهارات وقدور الطهي الفاخرة التي أهدتني إياها شقيقتي، بغرفة المعيشة المرتبة شاهدة على جلساتنا اليومية ومذاكراتنا ونقاشاتنا، بغرفة الضيوف التي ينتظر فيها أطفالي أعمامهم وجدهم كل مناسبة، بغرفهم ومكاتبهم ورفوفهم التي تحكي بعثرتها بريئة.

شعرت بدوار مفاجئ؛ كنت أردد كلمات الحمد، لكنها سقطت مني وتشابكت حروفي وبدأ جسدي بالانهيار. أمسك بي عمر وهو يطلب النجدة من النساء داخل الغرفة؛ أحضرن الماء وبدأن ينثرنه على وجهي وذكرنني بالاستعانة بالله… «مسكينة، لم تذق طعاما منذ الأمس» قالت إحداهن. «يبدو أن خبر قصف منزلها كان ثقيلا عليها» قالت أخرى.

استعدت وعيي شيئا فشيئا، ودخلت الغرفة بمساعدتهن واستلقيت على الفراش المهترئ في الصفية الباردة القاسية التي تقطر جدرانها رائحة بارود وإبادة. أي حياة هذه؟ وأي قلب يحتمل؟ وأي مستقبل لهذا الطفل الذي ربما تمتزج صرخات ولادته مع صيحات أم ثكلى أو كهل مكلوم أو ابنة جريحة؟

مرت أشهر الحمل ببطء ثقيل؛ كنت أحاول مواساة نفسي وعائلتي بينما قلبي يبطئ الخفقان ويتشبث بأي أمل. كنت دوما أعتقد أن الأم قادرة على تبديد خوف صغارها مهما كبر، لكن بين أنياب الإبادة لم تجد الأمهات سبيلا لذلك.

شخصْت ألف سنة وأنا ابنة الخامسة والثلاثين فقط؛ تغيرت ملامحي وشاخ قلبي عقودا. كنت أحاول تدبير أحوال العائلة خلال مكوثنا في المدرسة بينما ننتظر بيأس أي خبر يعيد شيئا من حياة لأرواحنا.

دخلت الشهر الثامن في حملي مع بداية الشتاء، ثم وصلت أنباء عن تراجع آليات المحتل من حينا؛ كم كنا فرحين لأننا سنرى منزلنا لأول مرة بعد القصف! كنت أتخيل الأثاث والغرف والسجاد وكل شيء… أما زال كما هو أم صار ركاما؟

وصلنا البناية فإذا بها قائمة لم تهدم تماما؛ طالتها الصواريخ من أكثر من جانب وتضررت طوابقها كثيرا، لكننا حين رأينا منزلنا وجدناه قابلا للسكن بأبسط شروط الحياة.

في ليلة قاسية شعرت بانقباضة كأنها أوقفت دقات قلبي للحظة؛ ذكرت الله كثيرا وأقنعت نفسي أنها أوهام، سمعت صوت المطر الغزير من كل جانب وأحسست أن البناية تصدر أصواتا غريبة كأنها احتكاك

انهيار البناية ورحيل بلا وداع

عادت الحياة قليلا إلى قلبي المثقل، وتسللت ابتسامة أطفالي إلى محياهم رويدا رويدا. صرت أتصور ولادتي الجديدة في منزل شبه سالِم، لكن المهم أننا عدنا إليه وسنخيط جراحنا من كل أمل نستطيع اصطياده… هكذا نحن، هكذا كنا وما زلنا.

هطلت الأمطار بغزارة مدوية، وامتزج هديرها بضجيج القصف في كل مكان. في تلك الليالي أمضيت وقتي ألملم شتات عائلتي وأطمئن على والدتي المريضة وشقيقاتي اللواتي نزحن جميعا إلى الجنوب مع بدء الاجتياح. بوجودهن هناك بعيدا عني، وبرحيل كل نساء عائلة زوجي، لم أعلم من سيعينني حين يحين موعد ولادتي؛ فتذكرت قريبتي الخالة أم العبد، فهاتفْتها وطلبت منها أن ترافقني إلى المستشفى حين أحتاجها؛ فوافقت ودعت لي بالسلامة.

في ليلة قاسية شعرت بانقباضة كأنها أوقفت دقات قلبي للحظة؛ ذكرت الله كثيرا وأقنعت نفسي أنها أوهام، سمعت صوت المطر الغزير من كل جانب وأحسست أن البناية تصدر أصواتا غريبة كأنها احتكاك.

كنا في البناية عدة عائلات عادت تبحث عن حياتها الأولى قبل الإبادة، لكن القصف الذي تعرضت له المنازل أضعف بنيتها التحتية، ومع تساقط الأمطار الغزيرة في نوفمبر/تشرين الثاني انهارت البناية ونحن داخلها.

هب الناس لانتشالنا؛ كنت في وعيي تماما أصرخ بصوت مخنوق منادية عمر وأطفالي، خشيت أن أفجع بأحدهم فأعيش مكلومة الدهر كله… جدران البناية تداعت فوق أجسادنا الغضة، وامتلأ المكان بالغبار.

تذكرت فورا أفراد عائلة زوجي الذين أكملوا عامهم الأول تحت الركام بلا حول ولا قوة؛ اختنقت أكثر وبدأت أشعر بضعف أنفاسي… ناديتهم للمرة الأخيرة، ثم فقدت وعيي.

۱۷ شخصا فقدوا حياتهم جراء الانهيار؛ عمر أصيب بكسور في ظهره، وأطفالي برضوض وجروح. أما أنا فانتشلوني على قيد الحياة لكن غائبة عن الوعي. حين وجدوني كانت يدي على رحمي الذي يضم صغيري الموعود بحياة أجمل، لكن بمجرد وصولنا المشفى رحلنا سويا. حلقت أرواحنا في سماء غزة مودعة عمر وفوزي وحلا ومحمد وأمير وزينة.

اسمي سماح، امرأة غزية كوت الإبادة قلبها.. وهذه كانت حكايتي

وضعوه بجانبي بعد محاولات إنعاشه؛ صغير يحكي وجهه كل مأساتنا. كلانا جسدان باردان مسجيان برفق في ثلاجة المشفى؛ كنت أسمع شهيق بكائهم حولي وأتألم لألمهم، ولا أستطيع حتى أن أفتح عيني لأراهم مرة أخيرة.

سمعت صوت الخالة أم العبد تودعني؛ أمسكت بيدي ومسحت على جبيني ثم اقتربت وقالت: «أتدرين يا سماح؟ زرتِني في منامي قبل يومين وأخبرتني ألا أتعب نفسي بالمجيء معك حين تضعين مولودك. ولما سألتك لماذا، قلت لي إنك ستذهبين برفقة عائلة زوجك؛ فعلمت أنك سترحلين وستوجعين قلوبنا…» أغلق باب الثلاجة وبقي صدى بكاء أطفالي يدوي في أرجاء المكان.

الجزیرة