أحلامنا مع وقف التنفيذ: تحدثنا طالبات غزة

الحرب لا تكتفي بقتل الأحياء، بل تمتد يدها إلى ما لم يولد بعد؛ إلى الأحلام التي كانت في طور التشكّل. في غزة، لم تُهدم الجامعات كمبانٍ فقط، بل انقطعت معها الجسور التي تصل الحاضر بالمستقبل. الطالبات اللواتي حملن كتبًا ومشاريع تخرّج، وجدن أنفسهن أمام سؤال مرير: ماذا يعني أن يُمحى مستقبلك قبل أن يبدأ؟

إن انقطاع التعليم هنا ليس حادثًا عابرًا، بل إعلان قاسٍ بأن الزمن يمكن أن يتوقف، وأن المعرفة التي كانت وعدًا بالخلاص صارت ركامًا آخر بين ركام المدن.

شهادات من قلب الأزمة

تخصص الجراجة في غزة

تقول الممرضة إسراء اليازجي (۲۵ عامًا): “كنت أدرس ماجستير جراحة وباطنة في سنتي الأولى، لكن بسبب طبيعة تخصصي العملي وتعطّل الدراسة الإلكترونية توقفت تمامًا عن التعلم، شعرت وكأن مستقبلي توقف بين لحظة وأخرى.”

وتوضح أن توقف الدراسة لم ينهِ خطتها الأكاديمية فقط، بل مسّ هويتها العلمية وطموحها المهني، تاركًا إياها أمام فجوة واسعة بين ما كانت تصبو إليه وما أصبح ممكنًا في ظل الحرب.

هذه الكلمات تكشف كيف تحوّل فقدان مقاعد الدراسة إلى كابوس يومي، وكيف أن الحلم الذي بُني عامًا بعد عام انهار فجأة، ليترك الطالبات في فراغ لا يسده شيء.

بديل ناقص

طلاب غزة

أما مرح عبدالعزيز (۲۵ عامًا)، طالبة إدارة أعمال في سنتها الثالثة، فتقول: “جاءت الحرب وحطمت مسيرتي التعليمية، لجأت إلى التعليم عن بعد، لكنه لا يرتقي لمستوى التعليم الوجاهي ولا يحقق فائدة حقيقية لي.”

تصف مرح قسوة الانتقال من قاعات المحاضرات والنقاش إلى شاشة صغيرة داخل خيمة بلا كهرباء مستقرة ولا بيئة تعليمية مناسبة: “لقد تحولت أحلامي حول مستقبل مهني واضح إلى معركة يومية مع الانقطاع، ضعف التركيز، وغياب التفاعل المباشر مع الأساتذة والطلاب. لم يعد التعليم مجرد طريق نحو العمل، بل صار رمزًا للحياة الطبيعية التي سُلبت منا، ومحاولة يائسة للتشبث بأمل يذوب كل يوم بين أصوات القصف وصرير النزوح.”

في ظل الحرب، غدا التعليم عن بعد خيارًا اضطراريًا لا يعوّض التجربة الحقيقية للتعليم الجامعي. الطلاب يفتقدون التفاعل المباشر مع الأساتذة والزملاء، المشاريع العملية تعطلت، والمواد النظرية وحدها لا تكفي لصقل المهارات، كما تُظهر شهادات الطالبات. الحلول الرقمية لم تمنح الشعور بالإنجاز أو الدعم النفسي والاجتماعي الذي توفره الجامعات الواقعية.

حياة مشوهة
الدارسة في غزة في الحرب

هديل سعد (۲۲ عامًا)، طالبة لغة إنجليزية وترجمة في سنتها الثانية، تصف خسارتها بقولها: “كنت أتعلم وأتدرّب لأتقن اللغة وأصبح أكثر استقلالية في مساري الجامعي، لكن الحرب هدمت ما بدأتُ أبنيه لنفسي. بعد أن كنا نقضي أيامنا بين المحاضرات وصباحات الأصدقاء، صرنا نعيش حياة بدائية لا تشبهنا، بدأنا ننسى ما تعلمناه، وصارت الذكريات نفسها تحاربنا، فيما يخيّم السواد على يومنا كله.”

وتضيف: “لقد أنهكتنا حياة الخيام، وفقد الأصدقاء، وسلب الحياة. شعوري غائم ومليء بالخوف؛ لا ندري إن كنا سنعيش للغد أم لا، وإن عشنا، هل سنحقق أحلامنا؟”

هذه الشهادات ليست مجرد قصص فردية، بل انعكاس لحالة جماعية أصابت آلاف الطالبات الجامعيات في غزة، حيث توقفت الكليات، وتعثرت مشاريع التخرج، وامتدت آثار الحرب لتسرق الوقت والطموح معًا.

وفق تقرير ETF، نحو ۸۷ ألف طالب جامعي في غزة واجهوا توقفًا كبيرًا في التعليم العالي بسبب تدمير الجامعات وتعطل البنية التحتية، مع ضعف حاد في الإنترنت والخدمات، مما جعل التعليم عن بعد غير كافٍ. كما تشير دراسة ميدانية إلى أن حوالي ۷۴٪ من الطلاب الجامعيين الذين استكملوا استبيانًا عن التعلم خلال الحرب كانوا من الطالبات، ما يدل على أن الانقطاع يطال النساء بشكل واسع.

الأخصائية النفسية ريم حمودة ترى أن: “الطالبات اللاتي فقدن جامعاتهن يواجهن فجوة كبيرة بين الطموح الواقعي والمستقبل المتاح، ما يولد شعورًا بالعجز والإحباط، ويؤثر على الهوية العلمية للمرأة.” وتضيف: “على المستوى الاجتماعي، يؤدي انقطاع التعليم إلى تراجع دور المرأة في المجتمع، إذ كانت الجامعات مساحة للتمكين والنمو الشخصي. غياب هذه الفرص يؤخر إمكانية اعتماد المرأة على نفسها، ويضع المجتمع أمام جيل معطّل عن تحقيق ذاته.”

في غزة، لا يُقاس المستقبل بالمباني بل بالكتب والدروس التي تُصان رغم الركام. الطالبات الجامعيات فقدن جامعاتهن، لكنهن أدركن أن المعرفة قد تُهدَر، فيما صمود المرأة يبقي الأمل حيًا. يبقى السؤال: كيف يُبنى جيلٌ سرقته الحرب؟ةربما تكون الإجابة في الاستمرار بالمقاومة اليومية، في كل درس وحلم يُصان.

بنفسج