زغاريد مؤجلة: أمهات الأسرى الفلسطينيين رحلن قبل لقاء أبنائهن

تعيش أمهات الأسرى الفلسطينيين عمرهن كله وهن تنتظر لحظة تعانق فيها ابنهن بعد سنين طويلة من الغياب، سنين عجاف أنهكها الحنين والصبر والألم. ما يُبقيها على قيد الحياة ليس سوى الأمل واليقين، ذاك اليقين العميق الذي لا تهزه السنين، ولا توهنه القضبان. تجاهد أمهات الأسرى بطريقتهن الخاصة، جهادًا صامتًا لكنه عظيم، يملأن به الفراغ والانتظار، ويقهرن به الغياب.

يتخيلن أمهات الأسرى الفلسطينيين لحظة اللقاء بتفاصيلها الدقيقة؛ الدمعة الأولى، النظرة المذهولة، الصرخة المختنقة بالفرح، واليد المرتجفة التي تلامس ملامح الغائب بعد طول اشتياق. يرتجفن لمجرد فكرة اللقاء، فكيف إن صار حقيقة؟ ولكن ماذا لو رحلن للقاء الله دون عناق أخير! أيّ ألم هذا؟ أي قهر للأسير!

هنا، نستعرض حكايات أسرى وأمهات الأسرى الفلسطينيين أنهكهم السجن وسرق أعمارهم، أولئك الذين عاشوا على أمل لقاءٍ طال انتظاره مع أمهاتهم، لكن القدر كان أسبق، فرحلت الأمهات قبل أن تُكحَّل أعينهن برؤية أبنائهن من جديد بعد سنين.

أم محمود عيسى: مشتاقة لشوفته

الأسير محمود عيسى

“لا تدرجوا اسمي في أي صفقة تبادل قادمة في حال فارقت أمي الحياة”، قالها الأسير محمود عيسى عام ۲۰۲۱، فلم يُخيل له أن يقفز أسوار السجن دون أن يرى وجه أمه البهيّ. كانت أمه تردد دائمًا: “الابن عيون أمه وروحها”، عاشت على بضع صور وصوت لا يغيب عن الذاكرة، وأمل لا ينطفئ. كانت تحكي عن طفولته وضحكته الأولى وخطاه الصغيرة، حتى جاء عام ۱۹۹۳ حيث انقلبت الحياة وبدأ فصل جديد في الغياب.

ظل قلبها معلقًا خلف القضبان حتى آخر رمق، تسمع عن عزل ابنها ۱۲ عامًا، فتدعو له بالصبر. وُلد محمود عام ۱۹۶۸ في قرية عناتا – القدس، واعتُقل بتهمة قيادة أول خلية قسامية في القدس المسؤولة عن اختطاف الجندي نسيم توليدانو، فحُكم عليه بثلاث مؤبدات و۴۶ عامًا، ليصبح عميد أسرى حماس.

تحرر محمود ضمن صفقة وفاء الأحرار، لكنه خرج دون أن تحتضنه والدته التي انتظرته ۳۰ عامًا. حتى حين وصله خبر وفاتها لم يُسمح له بالحزن. في آخر زيارة لها، نُقلت بالإسعاف عبر الصليب الأحمر لسوء حالتها الصحية، فكانت زيارة الوداع. زارته خمس مرات فقط خلال ثلاثة عقود من السجن. عانت إرهاق النسيان في أواخر أيامها، لكنها لم تنس محمود يومًا.

ناصر أبو سرور: يما أوعي تموتي

الأسير ناصر أبو سرور

كانت الحاجة مزيونة تُمني نفسها كل ليلة بلقاء قريب، حتى مرت ۳۲ سنة، فرحلت في أغسطس ۲۰۲۵، ليُفرج عن ابنها ناصر في أكتوبر من العام نفسه.
قالت قبل وفاتها: “آخر مرة تصورت معه، ركض عليّ وحضني وهو يصرخ: يما أوعي تموتي، إحنا اتفقنا نضل سوا. قلت له إذا أجا ملك الموت بدي أقله استنى شوي إذا قبل، قبل.”

كتب لها ناصر في ۲۰۱۴: “الحقيقة أن أمي شاطرة في كلام الحب والغزل. أطلبي منها أن تغني لك ظريف الطول، كانت تغنيها لي…”فقدت الحاجة مزيونة بصرها جزئيًا بعد جلطة في عينيها وقالت: “ظليت أربع سنين مخبية عليه، كنت أشوفه غباش وما قلت له عشان ما أمقته…بس لما زرناه كان مربي لحية، أخته قالت له يحلق لأنه مبين كبير، ولما سألني حلو يما باللحية؟ ما عرفت أجاوبه عرف من أخته وقال أنا السبب ما تزوريني يمّا أنا ما بستاهلك”.

الأسير ناصر هو واحد من ثلاثين أسيرًا اعتقلهم الاحتلال قبل توقيع اتفاقية أوسلو، ورفض الإفراج عنهم، وبعدها امتنعت سلطات الاحتلال عن إطلاق سراحهم، ثم عادت ورفضت الإفراج عنهم مجددًا ضمن اتفاق لاحق مع السلطة الفلسطينية، كان يقضي بالإفراج عن كافة أسرى ما قبل أوسلو.
نُفذ الاتفاق على أربع دفعات، لكن حكومة الاحتلال ألغت تنفيذ الدفعة الرابعة، وناصر لم يكن ضمن الثلاث الأولى، ومرة أخرى لم تشمله صفقة وفاء الأحرار، بسبب اعتراض أم الضابط الذي قتله.

وعلى الرغم من ذلك، جهزت الحاجة مزيونة ثوبها الفلسطيني العريق بلونه الأحمر، واشترت سرير له، وجهزت البيت لاستقباله خلال تنفيذ اتفاق تحرير دفعات من الأسرى ليستثنوا اسمه من الدفعة الثالثة، في اللحظة الأخيرة، عانت الحاجة كثيرًا فقالت: “مُنعت من زيارته ۷ سنوات، فبكيت حتى جفت دموعي”.

لم يكن ناصر يترك عيد أم دون أن يرسل الهدايا ويبعث بالرسائل لوالدته، أهداها في إحدى المرات لوحة مطرزة من صنع يديه وكتب: “إلى مزيونة التي تشربت مع ماء ثدييها أولى أبجديات الوطن.. صغيرك حتى يكبر ناصر أبو سرور”. كتب ناصر رواية “حكاية جدار”  أهداها لوالدته، ووقعها ناصر مزيونة أبو سرور، ليفوز بأفضل عمل روائي عام ۲۰۲۳، يحكي عن اللجوء والسجن والأمل، وها هو الآن حرًا مبعدًا بعد سنوات من القهر.

أم حسن سلامة: رحلت قبل الزغاريد

الأسير حسن سلامة

كان من المفترض أن تعم الزغاريد المكان، وأن يُرى وجه حسن قادمًا من بعيد، تخترق خطواته غبار الانتظار، لتحتضنه والدته التي انتظرته ۲۹ عامًا دون كلل، هو الأسير المحكوم ب ۴۸ مؤبدًا، لكنها لم تفقد يومًا أملها بخروجه، لكن المشهد لم يكتمل. رحلت الحاجة خديجة سلامة، في الدوحة عام ۲۰۲۴، أثناء تلقيها العلاج من المرض الذي أنهك جسدها، لكنها قاومته حتى آخر لحظة، مدفوعة برغبة واحدة: أن ترى ابنها حرًا.

عام ۲۰۲۴ لم يكن عاديًا في حياة حسن، كان عام الفقد الأشد فكيف وصله خبر رحيلها؟ وأي ليل مر عليه في زنزانته؟ ومن واسى قلبًا لم يودع أمه إلا بصورة وذكرى؟ كانت تقول دائمًا:”عندي إحساس إنو حسن هيطلع، وراح أحتفل بزواجه”.  ويوم قرر حسن أن يعقد قرانه، بكت وضحكت في آنٍ معًا، لم تصدق أن ابنها، بطل عمليات الثأر المقدس، يأخذ هذه الخطوة، وهو المحكوم بأربعة وأربعين مؤبدًا وأكثر من ثلاثة عقود خلف القضبان.

رأته مرة واحدة فقط خلال ۲۹ عامًا، بعد انقطاع دام ۱۲ عامًا، رغم حالتها الصحية المتدهورة، قاومت المرض فقط لأجل تلك اللحظة، أُنهكت سندناية فلسطين لتغادر الحياة ويبقى حسن يتيمًا من بعدها. 

أم كريم يونس: لم تنتظر عبثًا

الأسير كريم يونس

قالت صبحية يونس قبل وفاتها: “أتحسر على عدم قدرتي على زيارته وتقبيله، بشتاقله كتير.” توفيت قبل تحرر ابنها كريم يونس بثمانية أشهر فقط، بعد أن انتظرته ۴۰ عامًا في السجن. اعتُقل كريم وهو في الثالثة والعشرين من عمره، بتهمة الانخراط في المقاومة وقتل جندي، وتحرر في يناير ۲۰۲۵٫

تلقى خبر وفاتها بصبرٍ وتسليم، وقال لمحاميته: “أمي زارتني في السجن نحو ۷۰۰ مرة، كانت تقاتل لتصلني رغم التنغيصات. ما يشعرني بالفخر أنها لُفّت بالعلم الفلسطيني يوم وداعها.” يوم تحرره، ألقته سلطات الاحتلال في الشارع، فتوجّه مباشرة إلى قبر والدته في قرية عارة، وقف أمامه باكيًا سنوات الغياب الطويلة، يذرف دموعًا حُبست أربعة عقود خلف القضبان.

بنفسج