اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
تعاني النساء من صعوبة في تغيير ملابسهن أو قضاء أبسط احتياجاتهن دون شعور بالمراقبة و عدم وجود المساحة الآمنة. في كل زاوية من الخيمة أو البيت المشترك، يمتزج التعب بالخجل وبالحنين إلى بيتٍ يحتضن الهدوء. في هذا الزحام الإنساني، تُحرم نساء غزة من أبسط حقوقهن: الخصوصية والسكينة.
ورغم كل ذلك، لا تُظهر النساء انزعاجهن من الحياة التي فُرضت عليهن بعد النزوح، بدافع الخجل أو الخوف من أن يُقال لهن: “احمدي الله، في شي ساترك”. حتى وإن كان هذا الساتر قطعة قماش أو جدارًا هشًّا، فإنه لا يمنحهن حرية الحديث ولا إمكانية ممارسة الحياة كما كنّ من قبل.
“اشتقت أعيش ببيت”
في خيمةٍ بخانيونس جنوبي قطاع غزة، تحدّق نور بكر في مرآة متشققة حملتها من بيتها في مخيم جباليا قبل النزوح. تتأمل وجهها وتستعيد تفاصيل غرفتها التي كانت تمنحها خصوصية وهدوءًا افتقدتهما منذ أن سكنت الخيمة. يقطع شرودها صوت جارهم في الخيمة المجاورة وهو يوبخ زوجته بصوت مرتفع، فتخفض رأسها وتهمس بحرقة: “اشتقت أعيش بخصوصية… اشتقت أعيش ببيت”.
بالنسبة لنور، لم يكن النزوح مجرد فقدان منزل، بل فقدان لمساحة الأمان التي تحتاجها كل امرأة. يزعجها اضطرارها للبقاء بالحجاب لساعات طويلة في المكان المفتوح للخيمة، ولا تملك طاقة لتحمل حرّها في النهار. تقول بألم، وهي تمسح دمعة قبل أن تسقط: “عندما أريد تغيير ملابسي أطلب من شقيقي الصغير الخروج من الخيمة، وأحيانًا يعود قبل أن أنتهي، فأغضب كثيرًا. طلبت من أبي خيمة لوحدي فقال: اقبلي بالعريس الجديد، بتتزوجي وبتصيرلك خيمة! فازددت غضبًا… هل الزواج صار وسيلتي الوحيدة لأمتلك خصوصية؟”.
أما فاطمة عبد السلام، في أواخر الخمسينيات من عمرها، فقد نزحت من بيت حانون شمالي غزة إلى غرب المدينة، وقضت شهورًا تتنقل بين مراكز الإيواء من مدارس إلى خيام. تقول وهي تستند إلى قماش خيمتها: “تزوجت منذ الثامنة عشرة وكنت أعيش في بيت مستقل، وفجأة وجدت نفسي أشارك ثلاث عائلات غرفة صف مدرسي. كان الأمر كارثيًا… مرّ الشهر الأول ثم الثاني والعاشر وأنا على نفس الحال. لم أتقبل فكرة أن أبدّل ملابسي وما يفصلني عن الآخرين سوى قطعة قماش”.
وجدت فاطمة في الخيمة خصوصية نسبية، لكنها ليست كاملة: “كلما تحدثت يسمعني الجيران، وإذا أردت الحديث مع زوجي أو أولادي في أمر خاص، نخرج إلى الشارع لنتحدث براحة”.
أما ليان مصطفى (۱۷ عامًا)، فتعبّر بابتسامة باهتة عن انزعاجها من الازدحام في حمامات المخيم: “دايمًا الحمام مشغول على بختي… كنت أحلم أدرس هندسة، واليوم أمنيتي صار يكون عندي حمام خاص وبيت أعيش فيه براحة من غير حجاب”.
تحمل ليان الأواني إلى زاوية الجلي بجانب الخيمة وتبدأ العمل بصمت، محتفظة بحجابها خشية أن يراها أحد من نوافذ العمارات المحيطة. عند الاستحمام، يلازمها توتر دائم: “الحمام مصنوع من شوادر بلاستيكية وأخشاب هشة. كل مرة أدخل أخاف تقع عليّ الشوادر وأنا بالحمام، فاستحم بثلاث دقائق فقط ولا أخلع كل ملابسي مرة واحدة”.
وبحسب دراسة لهيئة الأمم المتحدة عام ۲۰۲۴، فإن ۷۵% من نساء غزة يعانين من اكتئاب دائم، و۶۲% يعانين من صعوبة في النوم، و۶۵% من التوتر والكوابيس. لكن خلف الأرقام، تبقى المعاناة أعمق: فنساء غزة أصبحن معيلات لأسرٍ فقدن فيها الأزواج، وحملن مسؤوليات لم يتخيلن يومًا أن يتحملنها.
بيت إيجار مشترك
تعيش يسرا محمد واقعًا قريبًا من حياة الخيام، رغم أنها في شقة صغيرة. هي أم لطفلين، تتقاسم المساحة مع زوجها وشقيقيه وزوجتيهما وأطفالهما السبعة، بالإضافة إلى والديه وشقيقته. تتكوّن الشقة من غرفتين وصالون صغير وحمام واحد، ما يجعل لكل حركة حدودًا ضيقة، ويزيد من الضغط النفسي.
تقول: “نصيبي في الشقة كان الصالون المفتوح على المطبخ. وضعنا أقمشة لأخلع حجابي، لكني لا أشعر بالراحة، أرتديه في المطبخ وفي طريقي للحمام. حتى في تربية أطفالي لا حرية لي، فالجميع يتدخل في كل شيء، حياتنا صارت مفتوحة أمام الآخرين”.
تضيف بأسى: “بعد وقف إطلاق النار لم يتغير شيء، لا نستطيع استئجار بيت وحدنا لأن إيجاره ۱۵۰۰ شيكل وزوجي لا يقدر على ذلك. كل ما يواسيني في الليل هو صور شقتنا القديمة… بيتي الذي كان يمنحني راحة وخصوصية”.
ثم تختم بصوت متهدّج: “بدنا كم سنة لنرجع لبيوتنا ونعيش براحتنا؟ بدنا كم سنة حتى لما أتعب ما أضطر أهرب لصور حياتي القديمة!”.
بنفسج