اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
في الحقيقة، ما انطلق كفضاء مفتوح يعزز الحريات والتواصل، تحوّل إلى مساحة مشبعة بالوصم والترهيب والتحيّز الجندري والجنسي والعنف الجنسي، تقودها العديد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي والأدوات التفاعلية التي وُعدنا بأنها ستجعل الحياة أسهل وأكثر عدلاً.
على سبيل المثال، في العام ۲۰۲۰، كشف أحد المصارف البرازيلية أن مساعدته الصوتية “بيا” تلقّت عشرات آلاف الرسائل الجنسية والتهديدات من الزبائن خلال عام واحد فقط، من بينها عبارات مسيئة مثل: “سوف أغتصبك”، “أريدك عارية”، وذلك لمجرّد أنها تتمتع بصوت أنثوي، وبالمثل، تعرّضت روبوتات الدردشة ذات الأصوات الأنثوية، مثل “سيري” و”أليكسا” إلى عنف لفظي وإهانات، وعليه، بدا ذلك وكأنه تذكير بأن حضور “أنثى”، حتى وإن كانت موجودة حصراً في الفضاء الرقمي، يكفي لفتح باب العنف والتهديد والتحرش الجنسي.
من صور مُزيّفة وفيديوهات مفبركة وصولاً إلى حملات تشهير وابتزاز الكتروني لصديقات افتراضيات، أصبح الذكاء الاصطناعي ينتج أشكالاً ووجوهاً متعددة من العنف الجنسي والرقمي، والمستهدف الرئيسي: النساء والفتيات.
الخوارزميات كمرآة للتمييز
في مقال نشرته لورا بايتس، في صحيفة “الغارديان” البريطانية، توضح أن “لاما”، وهو النموذج اللغوي الضخم، ساهم في إطلاق منصة “تشوب إيه أي” التي تتيح للمستخدمين التحدث والدردشة مع روبوتات ذكية وتجسيد أدوار تتسم بالعنف ضد النساء.
وتوضح لورا أن هذا الموقع الذي يجني أرباحاً طائلة، هو من بين آلاف التطبيقات التي “ترسخ كراهية النساء في مستقبلنا”، على حدّ قولها.
من صور مُزيّفة وفيديوهات مفبركة وصولاً إلى حملات تشهير وابتزاز الكتروني لصديقات افتراضيات، أصبح الذكاء الاصطناعي ينتج أشكالاً ووجوهاً متعددة من العنف الجنسي والرقمي، والمستهدف الرئيسي: النساء والفتيات
وبحسب “هيئة الأمم المتحدة للمرأة”، يشكّل الذكاء الاصطناعي عاملاً مضاعفاً للعنف الرقمي ضد النساء والفتيات، بخاصة في ظل غياب قوانين واضحة في الكثير من الدول لحماية الضحايا من التحرّش أو الملاحقة الإلكترونية.
تُظهر بيانات عدة أن أدوات الذكاء التوليدي، سواء تلك التي تنتج الصور أو الفيديو أو النصوص، جعلت من “التزييف العميق” خياراً سهلاً وسريعاً، إذ يشير تقرير صدر عن مكتب الوقاية من العنف الأسري في نيويورك، إلى إن ۹۶% من فيديوهات “الديب فايك” هي مواد جنسية، كما أن ۹۹% من ضحاياها نساء.
هذه المواد لا يمكن اعتبارها مجرّد صور مُعدّلة، بل هي أدوات عنف اجتماعي، يمكن أن تتحوّل إلى سلاح لابتزاز النساء أو لإسكاتهنّ أو لحرمانهنّ من مساحتهنّ العامة. واللافت أنه في حالات كثيرة، تتسبّب هذه الصور بتدمير علاقات عاطفية واجتماعية، وانهيار نفسي للنساء، وانسحاب من العمل وصولاً إلى العزلة التامة، وتالياً، يمكن القول إنها قد تخضع المرأة لمعادلة قاسية: كل صورة لها قد تتحوّل إلى تهديد، وكل تهديد إلى واقع مؤلم يدمر حياتها.
إلى جانب ذلك، تظهر دراسات عدة أن الذكاء الاصطناعي نفسه يعيد تدوير الصور النمطية حول النساء بحيث يحصر دورهنّ في الأعمال المنزلية، بينما يقلّ تمثيلهنّ في الأدوار المهنية أو السياسية أو القيادية. هذا التحيّز مبنيّ داخل البيانات نفسها، محمول ومتراكم من ثقافة رقمية شكلتها نظرة ذكورية ممتدة عبر عقود.
مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.
من هنا ينبثق رصيف۲۲، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.لنتحرّر من قيودنا!
في هذا الإطار، توضح هيئة الأمم المتحدة للمرأة في تقرير صدر في شباط/ فبراير ۲۰۲۵ أنّ أدوات الذكاء الاصطناعي غالباً ما “تعزّز وتعيد إنتاج عدم المساواة الجندرية”، فهي تستند إلى معلومات منحازة يتم فيها وصم النساء ومحاولة التقليل من مكانتهنّ، مقابل وضع الرجال في أدوار سلطوية، وهو ما كان قد أظهرته دراسة للباحثة ميرين غوتييريز نشرت في العام ۲۰۲۱، وتكشف كيف صنّفت خوارزمية لتحديد الصور النساء دائماً في خانة “المطبخ”.
محتوى حميمي غير طوعي
إن العنف الناجم عن الذكاء الاصطناعي أصبح تجارة قائمة بحدّ ذاتها، فقد بات هناك منصات متخصّصة تبيع خدمات توليد صور وفيديوهات جنسية باستخدام الذكاء الاصطناعي، هذا وكشفت تقارير دولية حديثة أن الجزء الأكبر من الصور والفيديوهات التي تُنشر من دون موافقة أصحابها تنتمي إلى فئة “المحتوى الحميمي غير الطوعي”، وغالبية الضحايا نساء.
يشير تقرير صدر عن مكتب الوقاية من العنف الأسري في نيويورك، إلى إن ۹۶% من فيديوهات “الديب فايك” هي مواد جنسية، كما أن ۹۹% من ضحاياها نساء
في هذا السياق، أظهرت دراسة شملت أكثر من ۱۶ ألف مشارك/ة في عشر دول أن ۲۲٫۶% مرّوا بتجربة إساءة جنسية عبر الصور، سواء عبر نشرها أو التهديد بنشرها، وقد أبلغت النساء عن آثار عميقة على صحتهنّ النفسية واجتماعية، وعن شعور دائم بفقدان السيطرة على صورة الجسد.
والمفارقة أنه حتى الدول التي سنّت قوانين لمحاربة مثل هذه الجرائم الإلكترونية لم تتمكن من وضع حدّ نهائي لها، لأن التطور التقني أسرع من قدرة التشريعات على مواكبته.
في العالم العربي… العنف يتضاعف بصمت
في منطقتنا العربية، تبدو المشكلة أكثر تعقيداً، ليس بسبب التكنولوجيا نفسها بل بسبب المساحة القانونية والاجتماعية التي تتحرك فيها، إذ إن الأعراف المحافظة، ضعف الحماية المدنية، والخوف من الوصمة كلها عوامل تجعل النساء أكثر عرضة وأقل قدرة على طلب الدعم.
في لبنان، وثّقت منظمات عديدة مثل “سميكس” ازدياد الحملات الرقمية ضد الصحافيات والناشطات، بحيث تُنشر مثلاً صور مفبركة على مجموعات مغلقة وتُستخدم لتهديد النساء أو سلب صوتهنّ. وفي حين أن بعض النساء يقررن الانسحاب من الحياة العامة فإن البعض الآخر يجرين تحليلاً جنائياً رقمياً لمعرفة مصدر التلاعب، في محاولات يائسة لاستعادة السيطرة على حياتهنّ الرقمية.
في الأردن، حذّرت جهات رسمية من انتشار حسابات مجهولة تنشر محتوى مفبركاً يستهدف مؤثرات وإعلاميات، بينما قد تتحوّل الشكوى نفسها إلى مخاطرة في ظل قوانين ضبابية تُستخدم أحياناً ضد النساء المستهدفات لا لصالحهنّ.
وفي العراق، وثّقت هيومن رايتس ووتش انتشار فيديوهات “حميمية” مفبركة استُخدمت لإسكات صوت نساء يعملن في مجال السياسة والإعلام، أما في مصر، فقد كشفت بيانات النيابة العامة أنّ معظم قضايا الابتزاز الإلكتروني ضد النساء تعتمد على صور جنسية مفبركة يتم إنتاجها عبر تطبيقات إلكترونية.
“الذكاء الاصطناعي لا يخترع كراهية النساء، إنه يعكس ويُضخّم ما هو موجود أصلاً”
هذا الواقع الأليم الذي يمزج بين التكنولوجيا والوصمة الاجتماعية، يصبح فيه تشويه سمعة النساء تهديداً وجودياً وليس مجرد حالة رقمية عابرة، وهو يستدعي تدخلاً عاجلاً، كما تقول مستشارة الذكاء الاصطناعي ديفيندرا جادون لوكالة “فرانس برس”: “الذكاء الاصطناعي لا يخترع كراهية النساء، إنه يعكس ويُضخّم ما هو موجود أصلاً. إذا كافأ الجمهور هذا النوع من المحتوى بملايين علامات الإعجاب، فستستمر الخوارزميات ومنشئو الذكاء الاصطناعي في إنتاجه. المعركة الأهم ليست تكنولوجية فحسب، بل اجتماعية وثقافية أيضاً”.
باختصار، إن الذكاء الاصطناعي ليس محايداً بل يعمل داخل بنية معرفية تشكّلت تاريخياً على تمييز جندري، فالبيانات التي تُدرَّب عليها النماذج محمّلة بتمثيلات مختزلة للمرأة، تقوم على “تشييء” الجسد وتحاول طمس حضورها المهني أو القيادي، وتالياً تقوم بعض التطبيقات الذكية على جعل المرأة “مادة” قابلة لإعادة التشكيل والاستهلاك بينما يبقى الرجل في موقع المهيمن.
وعليه، فإن هذه المنظومة التقنية تعيد إنتاج التحيّز وترسخ الذكورية السامة. ولئن أدواتها باتت في يد الجميع، فإن آثارها تتجاوز الهواتف والشاشات وتطال مباشرةً حياة النساء، أجسادهنّ وحريتهنّ.
رصیف۲۲