اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
هي الأصالة المتجلية في جذور أشجار زيتونها، وجبالها الضاربة في عمق التاريخ، بل هي التاريخ نفسه. هي البتول التي اصطفاها الله لتحمل في أحشائها كلمة الله.
هي أم الشهيد الصابرة، هي مفتاح القدس ونوره، هي الأم والأخت والأسيرة والشهيدة والرفيقة.. هي الحياة بأكملها.
هي التاريخ الفلسطيني الحافل في مسيرته بكفاح شعبه من أجل التحرر وبناء دولته المستقلة التي قدمت في مسيرتها آلاف الشهيدات والجريحات والأسيرات. لذا ليس غريبًا أن تكون في طليعة من يقدم الأرواح في معركة “طوفان الأقصى”، حيث فاق عدد الشهداء العشرين ألفًا حتى الآن، معظمهم من النساء والأطفال، كما أكدت ذلك الإحصائيات الأممية المعتمدة.
هي مصنع الرجولة التي أنجبت المقاومين والشهداء وربّتهم على العزة والكرامة. هي الأخت الداعمة التي تقف سندًا للمقاتلين الفلسطينيين، هي الحبيبة والزوجة التي تصبر وتناضل وتشد أزر زوجها، هي الشرارة الأولى التي انفجرت في وجه العدو، لتقاتل جنبًا إلى جنب في معركة النضال ضد الاحتلال.
كانت مشاركة النساء الفلسطينيات في أول ثورة للشعب ضد الانتداب البريطاني- عندما تظاهر ۴۰ ألف مواطن في شوارع القدس في ۲۷ فبراير/ شباط ۱۹۲۰ – واضحة وجلية، وهو ما جعلها مشاركة في الوفد الذي التقى المندوب السامي؛ مطالبًا بإلغاء “وعد بلفور”.
لقد لعبت المرأة الفلسطينية أدوارًا كبيرة في مسيرة النضال التحرري، حيث ظهر للوجود عام ۱۹۲۱ أول اتحاد نسائي فلسطيني، بقيادة زليخة الشهابي، أحد أبرز وجوه العمل النسائي العربي والفلسطيني، قبل إعلان قيام كيان الاحتلال الصهيوني بحوالي عَقدين من الزمن. لتطبع الشهابي مرحلة طويلة من العمل الوطني الفلسطيني لم تنتهِ بالمشاركة في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي، بل بالإبعاد من القدس- سنة ۱۹۶۸ – بعد احتلالها.
وهو الاتحاد الذي اجتهد في الفترة التالية لتأسيسه على توسيع القاعدة النسائية، وتنظيم اللجان وتوحيد الجهود النسائية للعمل على تطوير نضال المرأة الاجتماعي والسياسي؛ لمناهضة الانتداب البريطاني والوقوف في وجه الاستيطان الصهيوني.
وقد عقد الاتحاد عام ۱۹۲۹ أول مؤتمر نسائي فلسطيني، حضرته ثلاثمائة ممثلة من مختلف مناطق فلسطين، صدرت عنه عدة قرارات- ضمنها مراسلة القوى الدولية- تطالب فيها بوضع حد للهجرة الصهيونية، والظلم الذي يلحق بالمواطنين من بطش الانتداب البريطاني. وتنظيم العديد من الفعاليات والمظاهرات الاحتجاجية ضد المندوب السامي البريطاني؛ للمطالبة بإلغاء “وعد بلفور”، وتسيير مسيرة من ۸۰ سيارة طافت ببطء على جميع مراكز القنصليات الأوروبية.
في الستينيات كانت المرأة الفلسطينية من أوائل المشاركين في مقارعة المحتل برًا وبحرًا وجوًا، إذ سطرت المناضلة الشهيدة دلال المغربي أروع الملاحم البطولية، حينما أعلنت “أول جمهورية مستقلة على أرضنا المحتلة لمدة ثلاث ساعات”، وشادية أبو غزالة، وهي أول شهيدة فلسطينية بعد النكسة، وليلى خالد حينما خطفت أول طائرة، وخاطبت حينها موشيه ديان، وقالت له: “هذه أرضي”.. حيث خاضت المرأة الفلسطينية كافة أشكال النضال، في ظل الاحتلال والحصار والتهجير والقمع والعنصرية، وسط صمت دولي.
أما في المجال العسكري، فقد كانت نساء المدن تنقل الأسلحة الخفيفة من مكان لآخر عبر نقاط التفتيش، في حين كانت نساء القرى تقوم بنقل الثياب والمؤن والذخيرة للثوار في الجبال على ظهور الحمير والبغال.
لقد نزلت المرأة العربية في فلسطين مبكرًا إلى ميدان المعركة ضاربةً أروع الأمثلة في الإقدام والتضحية، ومن أمثلة البطولة، نذكر الشهيدة فاطمة غزال التي استشهدت في ۲۶ يونيو/حزيران ۱۹۳۶ في معركة وادي عزون قرب مدينة اللد.
هذا من التاريخ السابق على إعلان كيان الاحتلال، أما من تاريخنا القريب، فيمكن استحضار ريم صالح الرياشي استشهادية حي الزيتونة بمدينة غزة، وهي بنت كتائب القسام الأم لطفلين أحدهما رضيع، التي فجرت نفسها في تجمع لضباط الاحتلال بمعبر إيريز، على سبيل المثال لا الحصر بالطبع.
أما على صعيد الحركة الأسيرة، فلم تخلُ سجون الاحتلال الإسرائيلي من الأسيرات الفلسطينيات؛ حيث كن يناضلن خارج السجون وداخلها بعد أسْرهن، ولا يمكن نسيان أبريل عام ۱۹۷۰، حيث تم تنظيم حركة إضراب جماعي عن الطعام للأسيرات الفلسطينيات لمدة تسعة أيام متتالية؛ للمطالبة بالكفّ عن استهدافهن بالضرب والعنف داخل محبسهن، وخاصة الحبس الانفرادي، لتتوالى بعدها أعمال الاحتجاج حتى وقتنا الراهن.
وتعتبر خالدة جرار- القيادية المعروفة في الجبهة الشعبية- أشهر الأسيرات؛ بحكم أنها لا تغادر زنزانتها الانفرادية في صفقة تبادل، أو انتهاء لحكم ظالم، أو اعتقال إداري جائر، حتى يعيد الاحتلال إعادتها للأسْر من جديد.
كما أن المرأة التي لم تحظَ بالمشاركة في العمل النضالي المباشر، كان لها عمل آخر أثر في صمود الشعب الفلسطيني، وبنى أجيالًا تعرف جيدًا معنى الوطن، وتحمل قضيته على أعناقها دفاعًا عن أرضه. وتمثلت في الأم والزوجة والجَدة اللواتي كنّ حاميات لأسرهن في غياب الأب والزوج، سواء كان أسيرًا أم شهيدًا، وكانت تحمل وتورث القصة وحكاية الوطن من جيل لجيل حتى لا ينسى الأرض، ويستمر النضال والإصرار على عودة الحق. وهذا منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي عام ۱۹۴۸٫
وفي سياق معركة “طوفان الأقصى” – التي يواجه فيها الشعب الفلسطيني حركة إبادة جماعية متواصلة في قطاع غزة وفي الضفة الغربية – لا يستطيع الناظر أن يغفل مشاهد أدوار المرأة الفلسطينية، وهي تشارك بكل ما تستطيع من قوة سواء في إسناد المقاتلين وتوفير شروط صمودهم، وهي الأم أو الزوجة أو الأخت، أو كانت طبيبة تداوي الجرحى أو متطوعة تساعد في إعانة المتضررين في حرب الإبادة والاستهداف السافر للمدنيين؛ علمًا أن لها أسرة تسهر على شؤونها، أو صحفية تقف شامخة أمام العدو لتنقل المشهد في أسخن بقاع الأرض وأكثرها صعوبة، وتعاني من خطر الاستهداف اليومي بالقتل مثل كل أبناء القطاع حاليًا.
لم يستطع العدوّ الصهيوني أن ينال من عزيمة المرأة الفلسطينية؛ رغم القتل والهدم والاعتقالات المتتالية، إذ ستظلّ هناك بطولات وقصص لصمود نساء وفتيات ضحّين بأنفسهن ليخلدن أسماءهن عبر التاريخ.
ورغم صعوبة رصد الأحداث، نجدها الآن- ومن خلال حسابها الشخصي على منصات التواصل- تنقل كل صغيرة وكبيرة وبلغات أجنبية؛ لتنوير الرأي العام العربي والدولي، عبر تسليط الضوء على المجازر المتواصلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
فتارة نجدها الأم الصبورة التي وصل إيمانها عَنان السماء، وهي تنعى أولادها، وتارة أخرى هي الطبيبة والمسعفة التي رفضت أن تترك الجرحى، وأبت إلا أن تكون على رأس عملها، وهي تلك التي جاءها خبر استشهاد كل عائلتها، وأكملت عملها؛ صبرًا واحتسابًا. إنها المرأة الفلسطينية التي تعتبر بكل بساطة وريثة السيدة مريم العذراء سيدة نساء الأرض.
المصدر: الجزيرة