اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
أظهرت تجربة اجتماعية أجراها صحافيون في الصين المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الذكاء الاصطناعي في التأثير على سوق العمل وتوجهات الشباب في اختيار التخصص الذي سيبنون عليه مستقبلهم المهني، ليس في الصين وحدها بل في العالم أجمع بما فيه المنطقة العربية.
ووفق تقرير أعده أليكس كولفيل لمؤسسة جايمس تاون حثّ صحافيون المواطنين على طرح أسئلتهم على ديب سيك آر۱، أحدث نموذج لغوي ضخم في الصين، فسألته إحدى الشابات “أنا على وشك التخرج، ما نوع فرص العمل التي يمكن أن يوفرها الذكاء الاصطناعي؟” وكان هذا سؤالا في الوقت المناسب، حيث روّج المشرعون للذكاء الاصطناعي بصفته مفتاحا للتنمية المستقبلية.
وردّت شركة ديب سيك بأن الذكاء الاصطناعي يوفر “فرص عمل وفيرة”، مُدرجة وظائف مثل مُعلّقي البيانات، ومُشددة على الرواتب المرتفعة التي يُمكن أن تُتيحها هذه الوظائف. وعندما وجّهتُ السؤال نفسه إلى ديب سيك، قدّمت الشركة نفس الضمانات، وأوصت الخريجين بدمج مهاراتهم الحالية مع الذكاء الاصطناعي “لاغتنام الفرص الوظيفية في عصر الذكاء الاصطناعي.”
وأغفلت هذه الإجابة أي إشارة إلى الاضطرابات الاجتماعية التي يُسببها الذكاء الاصطناعي في سوق عمل يشهد ارتفاعا مُستمرا في معدلات البطالة بين الشباب.
وقد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تغيير جذري في سوق العمل، إذ يمكنه أداء المهام الروتينية بشكل أسرع وأكثر دقة من البشر، ما يقلل الحاجة إلى موظفي الوظائف التقليدية مثل إدخال البيانات، والمحاسبة البسيطة، والمترجمين، وخدمة الزبائن. فمنصات الذكاء الاصطناعي مثل روبوتات الدردشة حلت محل العديد من موظفي خدمة الزبائن، ما أدى إلى تراجع فرص العمل في مراكز الاتصال التقليدية.
الذكاء الاصطناعي يحدث تحولات جذرية في قوة العمل العالمية، لكن بتأثير متفاوت حسب المناطق والدول النامية والأكثر تقدما
وهناك تفاوت كبير في استخدام الذكاء الاصطناعي، فبعض المهن، مثل أعمال الأسقف والمباني، لا تستخدمه كثيراً، وبالتالي من غير المرجح أن تتأثر بصورة كبيرة، لكن في المقابل يتم استخدامه في وظائف مثل إعداد كشوف الرواتب، وبالتالي قد يكون له تأثير كبير على كيفية أداء هذه الوظائف، وعلى الصعيد العالمي نجد مهناً مثل ميكانيك السيارات بها أكبر عدد من العمالة التي تستخدمه بمعدلات منخفضة إلى متوسطة وبالتالي سيكون تأثرها في حدود هذه المعدلات.
ووفق تقرير للبنك الدولي، فإن الذكاء الاصطناعي يحدث تحولات جذرية في قوة العمل العالمية، لكن بتأثير متفاوت على المناطق، فهناك قدر كبير من الحديث عن الذكاء الاصطناعي والوظائف يركز على البلدان مرتفعة الدخل حيث تهدد التكنولوجيا بتحولات جذرية في وظائف وصناعات بأكملها، لكن ماذا يعني الذكاء الاصطناعي بالنسبة إلى العمال في البلدان النامية الذين يشكلون ۸۰ في المئة من قوة العمل العالمية؟
وحتى يتسنى فهم أثر الذكاء الاصطناعي بصورة أفضل على سوق العمل في العالم النامي، تم تحليل بيانات من ۲۵ بلدا فيها ۳٫۵ مليار نسمة، لتقييم مستوى استخدام الذكاء الاصطناعي وتحديد مدى إمكانية إنجاز الأعمال باستخدامه، وخلصت النتائج إلى أن آثاره على الوظائف ستكون أكثر تدرجاً في بلدان الجنوب، لاسيما في البلدان منخفضة الدخل.
والعمالة في البلدان منخفضة الدخل تستخدم الذكاء الاصطناعي على نحو أقل بكثير من العمالة في البلدان مرتفعة الدخل، وبالتالي فإن تأثرها به سيكون أقل، أما البلدان متوسطة الدخل فتأتي في المنتصف بين هاتين الفئتين من البلدان، ويرجع ذلك جزئياً إلى اختلاف هيكل سوق العمل في البلدان النامية مع زيادة عدد الوظائف التي تتطلب العمل اليدوي أو التفاعل بين الأشخاص، وهذه النوعية من الوظائف أقل تأثراً بالذكاء الاصطناعي، كما أن نقص الكهرباء وخدمات الإنترنت يحد من استخدام الذكاء الاصطناعي والتأثر به، لاسيما في البلدان منخفضة الدخل.
وهناك أيضا التباينات الديمغرافية التي تؤثر على استخدام الذكاء الاصطناعي، فالنساء يستخدمنه ويتأثرن به أكثر من الرجال، وإن كان هذا فقط في البلدان مرتفعة الدخل والشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل. وفي الوقت نفسه، وخلافا للبلدان الأكثر ثراءً حيث العمال الأكبر سنا هم الأكثر تأثراً بالتغيرات التي يحدثها الذكاء الاصطناعي، فإن التباينات المرتبطة بالفئة العمرية في استخدام الذكاء الاصطناعي والتأثر به ضئيلة في الاقتصادات النامية.
الذكاء الاصطناعي يغير مجموعة المهام في إطار المهنة الواحدة، ما قد يؤدي إلى توصيفات وظيفية جديدة تستند إلى مهارات مختلفة
ولا يعني استخدام الذكاء الاصطناعي بالضرورة الاستغناء عن مهمة أو وظيفة بأكملها، بل قد يعني ثلاثة أمور، أولها الأتمتة (الميكنة) حيث يتولى الذكاء الاصطناعي مهام محددة بالكامل، ما يقلل من الحاجة إلى العمالة البشرية.
وثانيا زيادة الكفاءة، فالذكاء الاصطناعي يعزز الإنتاجية البشرية، ما يسمح للعمالة بأداء المهام على نحو أكثر كفاءة.
والنقطة الثالثة هي إعادة هيكلة الوظائف، إذ أن الذكاء الاصطناعي يغير مجموعة المهام في إطار المهنة الواحدة، ما قد يؤدي إلى توصيفات وظيفية جديدة تستند إلى مهارات مختلفة.
ومن الناحية العملية من المرجح أن تحدث هذه الأمور الثلاثة بشكل مختلف على مستوى القطاعات والاقتصادات، فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يخلق أيضاً فئات ومجموعات من الوظائف الجديدة تماماً لم نتصورها بعد.
ووفق ما جاء في دراسة أكاديمية حديثة فإن “ما يحدث في هذا الوقت يشوبه الكثير من عدم اليقين، وبالتالي من غير الممكن التنبؤ بمستقبل العمل.”
وعلى الرغم من عدم اليقين المشار إليه، فإن النتائج تكشف عن تنبؤات مستندة إلى أدلة وشواهد، إذ سيكون تأثير الذكاء الاصطناعي على الوظائف أقل وأبطأ في العديد من البلدان النامية، وخاصةً في المناطق التي تعاني من محدودية خدمات الكهرباء أو الإنترنت.
وفي ضوء هذه الرؤى والتنبؤات يمكن أن يتخذ واضعو السياسات خطوات لضمان أن يعود الذكاء الاصطناعي بالنفع على العمالة في الاقتصادات النامية بدلا من الاستغناء عنها. ومن أهمها التوسع في البنية التحتية للكهرباء والخدمات الرقمية: فمن المهم للغاية توفير خدمات الكهرباء والإنترنت دون انقطاع، لاسيما في المناطق الريفية، لدعم اعتماد الذكاء الاصطناعي بهدف تحقيق أكبر قدر من المنفعة والاستفادة.
وإعطاء الأولوية لزيادة الكفاءة باستخدام الذكاء الاصطناعي وليس الاستغناء التام عن العمالة (الأتمتة)، فمن شأن تشجيع تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تعزز الإنتاجية البشرية بدلا من الاستغناء عن العمالة أن يساعد على حماية سبل كسب العيش وتحفيز النمو الاقتصادي الشامل للجميع.
ومن المهم جدا تسخير الذكاء الاصطناعي لتحسين خدمات الرعاية الصحية والتعليم، فيمكن للذكاء الاصطناعي أن يسد العجز في رأس المال البشري في القطاعات الحيوية مثل الطب والتعليم، وبالتالي تيسير توفير الخبرات العملية المطلوبة.
وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يحدث تحولات جذرية في الاقتصاد العالمي، فإن تأثيره يختلف من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، ففي العديد من البلدان النامية سيأتي التحوّل بوتيرة أبطأ، ما يتيح فرصة فريدة للحكومات والشركات لتحديد دوره في مهام القوى العاملة، ومن خلال السياسات الاستباقية يمكن لهذه البلدان تسخيره لتمكين العمالة ودعم قدراتها بدلا من الاستغناء عنها.
وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية حلّت الآلات محل ۶۰ في المئة من جميع أعمال مُعلّقي البيانات في الصين، ما دفع هذه المهنة نحو الزوال. وكانت إجابة ديب سيك للطالبة التي سألته عن نوع فرص العمل التي يمكن أن يوفرها مُتجاهلة لهذه المخاوف، وأكّدت على مفهوم ديب سيك كـ”رمز سعادة”، وهي تقنية تُظهر الجهود التي تبذلهاالدولة لمعالجة القضايا الوطنية وطمأنة الشعب بأنه في أمان.
وتُستخدم هذه التقنية الجديدة في جوهرها لخدمة نظام قديم: جهاز “توجيه الرأي العام”، أي الذي يُوجّه مشاعر الجمهور بما يتماشى مع سياسة الدولة من خلال الدعاية.
والاعتماد المتزايد على نماذج الذكاء الاصطناعي للحصول على المعلومات يمنح ديب سيك إمكانات ليصبح أداة قوية تدعمها الدولة “لتوجيه الرأي العام”.
وقدّم “تقرير عمل الحكومة” مبادرة “الذكاء الاصطناعي+”. وتطرّقت هذه المبادرة إلى جانب اقتصادي يكمن في “التكامل العميق بين التكنولوجيا الرقمية والاقتصاد”، وإلى جانب اجتماعي يكمن في “تحسين مستوى تحديث الحوكمة الاجتماعية”.
وتستكشف الحكومات المركزية والمحلية والبلدية اليوم سبل دمج ديب سيك في الحوكمة الاجتماعية، بما في ذلك مساعدة الكوادر وأجهزة الدولة على صنع القرار لحل النزاعات وتعزيز السياسات. ويمكن أن تكون بعض المساعي التي تبذلها السلطات المحلية لجذب الانتباه، أقرب إلى الرمزية منها إلى العمل الملموس.
وتُعرّف “الحوكمة الاجتماعية” بأنها النظام المُستخدم للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وحلّ النزاعات. ويتوقع الحزب والدولة أن يلعب الذكاء الاصطناعي دورا حاسما في الحوكمة الاجتماعية المستقبلية.
ومن الناحية النظرية يُتيح نظام لغة كبير فعال مُصمم في الصين للحكومات المحلية وسيلة لإثبات تطبيقها “مبادرة الذكاء الاصطناعي+” والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي بكفاءة أكبر. على سبيل المثال دمجت إحدى المقاطعات نظام ديب سيك في خط المساعدة المحلي “۱۲۳۴۵”، وأكّدت أنه سمح بتوجيه الشكاوى إلى الإدارات المعنية بكفاءة أكبر.
كما تُقدّم أجهزة الشرطة نظام ديب سيك بصفته أداة مساعدة في مجال الأمن العام، حيث ذكر أحد مراكز الشرطة المحلية أنه يستخدمه لتوجيه المعنيين إلى قانون الصين خلال نزاع سكني عائلي بما “أضاف لمسة من الدفء على انسجام المجتمع واستقراره.” وربط مكتب الأمن العام البلدي ديب سيك بمراكز بياناته لدعم عمل الشرطة، بينما تعقد فروع أخرى اجتماعات تهدف إلى دمج النموذج حتى يُمكن تعزيز عمل الأمن العام.
ويعتبر بعض الصحافيين الصينيين منصة ديب سيك مصدرا “سليما” سياسيا للتعليق على القضايا الحساسة، ما يسمح لهم بتجنّب تحمّل المسؤولية الشخصية.
ونشرت إحدى وسائل الإعلام الحكومية الإقليمية مقالا يتضمن تحليلا مُولّدا بالذكاء الاصطناعي لقضية تهرب ضريبي بارزة تشمل مذيعا تلفزيونيا وكاتبا قوميا معروفا بتفنيده للعلوم الزائفة. واكتفت المنصة بنشر تحليل ديب سيك حرفيا دون أي تعليق إضافي بعد أن طلبت منه تفسير ما يعنيه كون هذه الشخصية قيد التحقيق بتهمة التهرب الضريبي.
وصوّر صحافيون آخرون ديب سيك على أنه يمتلك ذكاء يفوق قدرات البشر العاديين، مشيرين إلى استطاعته توجيه الناس بشكل أفضل مما يستطيعون توجيه أنفسهم. ووصفت إحدى المقالات كيف يوظف الأزواج ديب سيك في الإرشاد لحل مشاكلهم الخاصة، وهو شكل من أشكال الصراع في ظلّ اختصاص الحوكمة الاجتماعية في الدولة الحزبية. ونقلت المقالة عن أحد الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات قوله إن حلول ديب سيك كانت “أكثر علمية ومنطقية وفاعلية” نظرا لبنيتها المعرفية الشاملة مقارنة بجلّ الأفراد العاديين. ومع ذلك، كان اختيار هذا الشخص لموضوع مشاكل الأزواج غريبا باعتباره خبيرا في مكافحة الإرهاب وحوكمة الأمن السيبراني، حيث سلّط توجهه الضوء على التداخل بين الحوكمة الاجتماعية والأمن الداخلي، واهتمام الدولة الحزبية بالوصول إلى حياة المواطنين الخاصة والتأثير عليها.
ويشجع الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي خارق للطبيعة أو سيصبح قريبا خارقا للطبيعة، إضافة إلى التوجيهات المركزية لتطبيق “الذكاء الاصطناعي المتقدم”، المساعي الحثيثة التي تبذلها بعض الكوادر على مستوى المقاطعات والأقاليم لاعتماد ديب سيك في عمليات صنع القرار.
وتُجري الإدارات الحكومية برامج تدريبية مكثفة على هذا البرنامج. وأكد نائب سكرتير على مستوى المقاطعة أن إتقان هذه “المهارة الجديدة” ضروري “لأخذ زمام المبادرة” في عصر الذكاء الاصطناعي، مشيرا إلى أن اعتماد هذه التكنولوجيا “ليس اختياريا بل هو إلزامي.” كما أمر سكرتير حزب مقاطعة مؤخرا الكوادر بتثبيت ديب سيك على أجهزتهم لتعزيز قدراتهم وتهيئتهم لتطورات الذكاء الاصطناعي.
كما برز اسم ديب سيك حيث ذكر أحد المندوبين أنه استخدمه للإجابة عن سؤال حول استبدال العمال بالروبوتات. وأجاب ديب سيك بأن الروبوتات ستُعوّض البشر “جزئيا”.
المصدر: العرب