اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
كثيرًا ما يُساء فهم الصمت، فيُظنّ ضعفًا، أو خضوعًا، أو حتى جهلًا. لكن الحقيقة أن الصمت في بعض الأحيان يكون أبلغ من كل خطبة، وأصدق من كل شعارات. هو موقف، وصرخة داخليّة، يختارها أصحاب القوّة الهادئة حين تعجز الكلمات عن حمل أوجاعهم أو حين تُصبح اللغة عاجزة عن التعبير عن الحقيقة.
في غزّة، مثلًا، يصرخ الصمت كل يوم. خلف كلّ بيتٍ مهدّم، وكل أمٍ مفجوعة، وكل طفلٍ نائم بلا سقف
في غزّة، مثلًا، يصرخ الصمت كل يوم. خلف كلّ بيتٍ مهدّم، وكل أمٍ مفجوعة، وكل طفلٍ نائم بلا سقف، هناك صمتٌ أقوى من كل وسائل الإعلام. هو صمت مقاوم، لا يعرف الانكسار، ولا يسمح لليأس أن يسكنه. مفارقة عجيبة! أن تكون تحت القصف، بلا كهرباء، ولا ماء، ولا اتصال، ثم يُقال عنك: “لم نسمع شيئًا من غزّة”! وكأن الصوت وحده دليل الحياة، بينما الصمت هناك، حياةٌ كاملة من الصبر والمقاومة.
صمت غزة لا يشبه أي صمت. هو احتجاج هادئ على عالمٍ أصمّ، وخيانة كبرى من عالم يتفرّج، بينما الناس هناك يموتون بلا من يجيب النداء. في كل مرة يُقطع فيها الاتصال، أو تنقطع الكهرباء، لا يعود هناك إلا الصمت… ليس لأنهم لا يريدون الكلام، بل لأن لا أحد يسمع، ولا أحد يرد.
والأدهى من ذلك، أن يُقابل هذا الصمت المليء بالحياة بالخذلان. لا صوت ينصر، ولا يد تمتد، ولا نداء يُلبّى. صمتهم لا ينبع من العجز، بل من القهر… من الغصّة التي ما عادت تجد من تحتويها، ومن الشعور أن كل صراخ الدنيا لا يُحرّك ساكنًا إن لم تُصغِ له القلوب. الصمت في الحرب ليس هزيمة. بل هو شكل من أشكال الثبات. هو أن تعيش رغم كل شيء، أن تواصل رغم كل القصف، أن تبني من جديد، رغم ركام البيوت والقلوب.
وليس الصمت فقط في الحروب. بل هو أيضًا في الحياة اليومية، حين تختار أن لا ترد على الإهانة، لا لأنك عاجز، بل لأن كرامتك لا تُقاس بالصوت. هو أن تصمت أمام الظالم، وأنت تراه ينهار من ثباتك. هو أن تُسكت الحروف لأنك واثق أن الحق لا يحتاج إلى ضجيج.
الصمت ليس غيابًا، بل حضورٌ من نوعٍ آخر. هو وقفة تأمل، وقرار نابع من قوّة، واختيار لمن يعرف متى يتكلّم ومتى يصمت فلنُعيد فهم الصمت، ولنحترم من يختاره. فبعض القلوب لا تثرثر، لكنها تفهم، وتتألم، وتقاوم… بصمت.
بنفسج