اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
التاريخ الإنساني في القرن العشرين مليء بقصص القتلة المتسلسلين في الولايات المتحدة وأوروبا وخصوصا زمن حدوث الحربين العالميتين وبإمكان أي مخرج سينمائي أن يأخذ قصة قاتل متسلسل، أو قاتلة متسلسلة، ويحولها إلى فيلم جريمة ورعب بكل سهولة، لكن الأجمل أن تكون قصة هذا القاتل خطا ضمن خطوط قصة إنسانية تروى في الزمن الذي عاش فيه. هذا ما فعله المخرج السويدي ماغنوس فان هورن في فيلمه “الفتاة ذات الإبرة” الذي شارك في مهرجان كان في دورته السابعة والسبعين عام ۲۰۲۴ ونافس على أوسكار أفضل فيلم أجنبي هذا العام.
ويروي فيلم “الفتاة ذات الإبرة”، الذي قدمه مخرجه ماغنوس فان هورن بتقنية الأسود والأبيض، قصة المرأة المطحونة كارولينا (فيكتوريا كارمن سوني) التي تعيش في أحد أفقر أحياء كوبنهاغن في الدنمارك بعد الحرب العالمية الأولى، تحديدا عام ۱۹۱۸، وتعمل خياطة في أحد المصانع الكبرى وتعاني فقرا ماديا شديدا الأمر الذي يدفع صاحب الغرفة التي تسكن فيها إلى طردها منها لأنها لا تملك ثمن الإيجار ولا يوجد من يعينها بعد أن ذهب زوجها إلى الحرب وقتل هناك أو هي تعتقد كذلك فتضطر إلى العمل في هذا المصنع الكبير الذي يملكه أحد أثرياء كوبنهاغن كي تعيل نفسها وتدفع ثمن إقامتها في هذا الحي المليء بالناس البؤساء مثلها الذين طحنتهم قسوة الحرب، لكن كارولينا تسعى للخلاص من الفقر بأي شكل من الأشكال فتقيم علاقة غرامية وجنسية مع صاحب المصنع يورغن (يواكيم فيلستروب) وتحمل منه بعد فترة.
يقع الرجل في حب كارولينا ويسعى إلى الزواج منها فتمنع والدته هذا الزواج الذي تعتبره إهانة لطبقتهم النبيلة، وهذا الموقف يذكرنا بأحداث فيلم “أنورا” الحائز على خمس جوائز أوسكار هذا العام، فالثيمة نفسها وجدت في الفيلمين. يرضخ يورغن لرغبة أمه ويتخلى عن كارولينا والطفلة التي تحملها منه، وتتخلى كارولينا بدورها عن زوجها الذي فاجأها بعودته من الحرب بوجه مشوه إثر تعرضه لإصابة شديدة، رافضة هذا المسخ البشري الذي عاد إليها بعد أن اعتقدت أنه قد مات.
تعود المرأة وحيدة ضائعة، لكن هذه المرة في أحشائها طفلة ستأتي إلى الحياة، فكيف ستعيلها وهي التي لا تستطيع إعالة نفسها. تقرر التخلص من جنينها في الحمام باستخدام إبرة الخياطة التي تستعملها في آلات الحياكة لكن القدر يحول دون ذلك فتنقذها امرأة طيبة اسمها داغمار (ترين ديرهولم) وتعدها بأنها ستساعدها على إعالة هذه الطفلة حين تلدها لأنها تمتلك جمعية سرية تقوم بتقديم الأطفال الذين يولدون بشكل غير شرعي لعائلات ميسورة تقوم بتبنيهم وتربيتهم. تصدقها كارولينا وتعطيها داغمار عنوان متجر الحلويات الذي تملكه وتطلب منها المجيء للعمل عندها وهذا ما يحدث بالفعل.
إلى هنا يمضي النصف الأول من الفيلم الذي يروي لنا قصة إنسانية لامرأة بائسة اسمها كارولينا ويسلط الضوء على معاناتها ضمن مجتمع أنهكته الحرب، لنأتي إلى النصف الثاني الذي يقلب الموازين لدينا وتبدأ الصدمات لتنتقل إلى الجزء العنيف الذي كان نتاج تداعيات هذه الحرب وتأثيره على السلوك البشري، مع حفاظ المخرج المؤلف على رؤيته المحايدة تجاه الشخصية التي سيسلط الضوء عليها في النصف الثاني من الفيلم وهي شخصية داغمار التي تحتضن كارولينا وتؤويها.
تبدأ كارولينا بالعمل عند داغمار التي تطلب منها إرضاع الأطفال الذين تأخذهم من أهاليهم ومن بينهم طفلة في السابعة من عمرها لنكتشف أن داغمار تقوم بقتل هؤلاء الأطفال بخنقهم ورميهم في مجاري الصرف الصحي معتقدة أن ما تفعله فعل تطهيري تريحهم به من هذه الحياة التي ظلمتهم. تكتشف كارولينا هذا الأمر وتهرب بطفلتها من عالم داغمار الإجرامي ويتم إلقاء القبض على داغمار هذه القاتلة المتسلسلة وتحاكم.
وقدم ماغنوس فان هورن قصته بكاميرا ثابتة معظم الوقت، معتمدا الأبيض والأسود لونين للفيلم ليعطي واقعية للزمن الذي تدور فيه أحداث الفيلم الذي أدار عدسته مدير التصوير ميشيل ديماك، جامعا بين عدة مدارس إخراجية أصيلة اعتمد فيها على الإضاءة والظلال المستقلة، بدءا من المدرسة التعبيرية الألمانية حيث اعتمد على اللقطات الثابتة معظم الوقت، وعلى اللقطات القريبة في إظهار انفعالات وأحاسيس الشخصية الرئيسية، إلى جانب اللقطات البعيدة التشكيلية في الأماكن الطبيعية والخارجية التي أضفت جمالا على الصورة.
يذكرنا هذا الأسلوب الفني بكبار مخرجي السينما في القرن العشرين، فمثلا لقطة خروج كارولينا وزميلاتها من باب المصنع تذكرنا بفيلم الأخوين لوميير مخترعي السينما وأول فيلم سينمائي لهما “الخروج من مصانع لوميير” حيث يصوران بلقطة عامة بعيدة الباب الذي يخرج منه العمال، فكانت الزاوية نفسها واللقطة ذاتها.
كما تذكرنا أجواء الفيلم أيضا بالأفلام الإيطالية التي صورت بعد الحرب العالمية وخصوصا فيلم “روما مدينة مفتوحة” للمخرج روبرتو روسليني و”سارق الدراجة” للمخرج فيتوريو دي سيكيا، هذا كله من حيث الأجواء، أما مشهد الحديقة وعربة الطفل حيث تكون كارولينا وداغمار جالستين فيذكرنا بفيلم “طفل روز ماري” للمخرج رومان بولانسكي.
وفي العصر الجديد يعود فيلم “الفتاة ذات الإبرة” بذاكرتنا إلى الوراء لنستعيد الفيلم البولندي “آيدا” للمخرج بافل بافليكوفسكي الصادر عام ۲۰۱۴، من حيث تشابه الألوان والصورة، لكن فيلم “الفتاة ذات الإبرة” يظل من أجمل الأفلام التي قدمت العام الماضي حيث كان فيلما متكاملا نصا وإخراجا.
المصدر: العرب