اسم المستخدم أو البريد الإلكتروني
كلمة المرور
تذكرني
وعلى مدار ثلاثة عقود منذ الخمسينيات، جرى تركيب وسائل منع حمل، خصوصا اللولب الرحمي، لآلاف النساء في غرينلاند، وكانت بعضهن لم تتجاوز أعمارهن ۱۲ أو ۱۳ سنة، ولم يكن لديهن علم مسبق بالإجراء، ولم يحصلن على أي فرصة للاعتراض أو الموافقة، في خرق صارخ لأبسط حقوق الإنسان.في أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، قدّمت رئيسة وزراء الدنمارك، ميتا فريدركسن، اعتذاراً رسمياً للنساء المتضررات، خلال بيان مشترك مع حكومة غرينلاند، وقالت: “لا يمكننا تغيير الماضي، لكن يمكننا الاعتراف به وتحمل المسؤولية”.ولاحقاً، أقيمت مراسم رسمية في نووك، عاصمة غرينلاند، أُعلن فيها عن فتح الباب لتقديم طلبات التعويض من النساء اللواتي خضعن لهذه الإجراءات قبل عام ۱۹۹۲، وهو العام الذي استلمت فيه غرينلاند إدارة قطاعها الصحي من الحكومة المركزية في كوبنهاغن.وتشير تقديرات رسمية إلى أن نحو ۴,۵۰۰ امرأة وفتاة خضعن لهذا الإجراء، ما يعادل نصف النساء في سنّ الخصوبة في غرينلاند آنذاك، وخضعت كثيرات من الضحايا لما وصفنه بـ”الألم الدائم”، والنزيف، والاكتئاب، فضلاً عن فقدان الخصوبة، وعبرت بعضهن في شهادات أدلين بها لاحقاً، عن شعور بالاغتصاب الطبي، والخيانة، وفقدان السيطرة على أجسادهن. وقالت إحدى الناجيات بحسب وسائل إعلام محلية: “لم أفهم يوماً لماذا لا أستطيع الحمل. كنت مراهقة خجولة، وخائفة من السؤال، وبعد سنوات طويلة، عرفت أن جسدي قد حُرِم من حقه من دون استشارتي حتى”.وتصف تصريحات قادة غرينلاند ما جرى بأنه شكل من “الإبادة الجماعية”، استنادا إلى تعريف الأمم المتحدة الذي يشمل “التدابير الرامية إلى منع الإنجاب داخل جماعة قومية أو عرقية”، ما أثار عاصفة في الدنمارك، دفعت وزيراً سابقاً لشؤون غرينلاند إلى التهديد بإقامة دعوى قضائية، معتبرا أن ما جرى كان “إجراءً طبياً خاطئاً” وليس “جريمة إبادة”.
وترى منظمات حقوقية أن هذه الممارسات كانت ضمن سياسات استعمارية ممنهجة تهدف إلى السيطرة على السكان الأصليين بطرق غير مباشرة، تبدأ من الجسد وتنتهي بالهوية.وأعادت قضية اللولب القسري تسليط الضوء على العلاقة الشائكة بين غرينلاند والتاج الدنماركي، ورغم أن الجزيرة تتمتع بحكم ذاتي منذ ۱۹۷۹، فإنها ما زالت رسمياً جزء من مملكة الدنمارك. لكن هذا الملف فتح الباب أمام مطالب الاستقلال، خاصة بعد محاولات سابقة من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لشراء الجزيرة أو الاستيلاء عليها بالقوة، واهتمام متزايد من قِبَل دول كبرى بموقعها الجغرافي وثرواتها الطبيعية.ويرى مراقبون أن الاعتذار الدنماركي جاء خطوة استباقية للحد من الغضب الشعبي المتنامي، وضمان استقرار العلاقة مع الغرينلانديين في مواجهة التحديات الجيوسياسية المقبلة. ورغم الاعتذار، وإنشاء صندوق مالي للتعويض، لا تزال تفاصيل كثيرة غامضة. فمن سيُعوَّض؟ وكم سيُدفع؟ وهل المال كافٍ لشفاء جرح امتد لعقود؟
تقول وزيرة العدل في غرينلاند، نايا نثيلنسن، لقناة دي آر الدنماركية: “القضية لا تتعلق بالمال، بل بالكرامة الإنسانية، وبالاعتراف الصريح بالألم الذي طاول نساءنا”. وبينما قدمت مئات النساء طلبات تعويض، هناك شعور متزايد بأن ما حدث لم يكن مجرّد إجراء طبي، بل سياسة مؤسسية تمت بعلم الدولة، وباسمها، ولأهداف ديموغرافية محضة. قد يكون الاعتذار الرسمي خطوة أولى نحو العدالة، لكن الإنصاف الكامل يتطلب أكثر من الكلمات، بل كشف الحقيقة كاملة، ومحاسبة المسؤولين، وضمان ألا تُنتهك أجساد الأجيال القادمة بذريعة السيطرة على المواليد.ورغم أن اللولب الرحمي طُوّر كوسيلة طبية لمنع الحمل في بداية عشرينيات القرن الماضي، وبدأ استخدامه على نطاق أوسع في بداية الخمسينيات، إلا أنه تحوّل في مراحل تاريخية إلى أداة قسرية للسيطرة على خصوبة النساء، خصوصا من الفئات المهمّشة، وأحياناً بدوافع طبقية أو عنصرية.في الولايات المتحدة، خضعت نساء من أصول أفريقية ولاتينية لتركيب لوالب من دون موافقتهن، وحدث الأمر نفسه في بورتوريكو والهند والصين، في إطار سياسات “تنظيم النسل”، وفي السويد، شملت برامج تحسين النسل نساءً اعتُبرن “غير مناسبات للأمومة”.
العربي الجدید