تراجع مقلق للخصوبة في البلدان العربية

يدق الخبراء والمختصون في شؤون الأسرة في البلدان العربية ناقوس الخطر بخصوص تراجع الخصوبة، حيث شهدت معدلات الإنجاب في العالم العربي تراجعا متفاوتا بفعل عوامل اقتصادية وثقافية واجتماعية.

وتعاني بلدان مثل تونس والجزائر ولبنان والأردن وسوريا والعراق واليمن تراجعا في الإنجاب نتيجة لرغبة عديد الأسر في الحفاظ على مستوى معيشي مرتفع، من جهة، ولانخفاض مداخيل عدد من الأسر الأخرى، ومن ثم العجز عن الوفاء باحتياجات الحياة، من جهة أخرى.

ففي تونس، كشف التعداد العام للسكان والسكنى لسنة ۲۰۲۴ عن تراجع المؤشر التأليفي للخصوبة على ۱٫۷ طفل لكل امرأة، وهو معدل أقل من الحد الأدنى الضروري لتجدد الأجيال المحدد في ۲٫۱٫ ووفق الخبراء يهدد هذا الانخفاض الحاد، الذي يُعزى إلى عقود من سياسة الدولة في تشجيع النسل، بعواقب سوسيو-اقتصادية بعيدة المدى.

بالموازاة، سجل مؤشر الإعالة الديمغرافية لكبار السن في البلد ارتفاعا من ۱۱ في المئة في ستينات القرن الماضي إلى ۲۸ في المئة حاليا، في حين صعد مؤشر الشيخوخة من ۱۲ في المئة إلى ۷۴ في المئة، ما يعكس تغيرا جذريا في بنية الهرم السكاني، باتت فيها القاعدة الشبابية أضيق وأعلى القمة أكثر اتساعا
ووصف مراقبون وخبراء في الديمغرافيا هذا المعطى الرقمي بأنه بات يعكس صورة “دولة عجوز”، حيث أشارت نتائج التعداد العام للسكان في تونس لسنة ۲۰۲۴ إلى تحوّل ديمغرافي مقلق، كشف عن تباطؤ كبير في النمو السكاني خلال العقد الماضي، إذ لم تتجاوز الزيادة السكانية في عشر سنوات حاجز المليون نسمة، ليستقر عدد السكان عند ۱۱۹۷۲۱۶۹ نسمة.

بدورها، كشفت دراسة بعنوان “التراجع الوبائي في معدل الخصوبة البشرية في العالم العربي” نشرها باحثان من جامعة الشارقة الإماراتية في عام ۲۰۲۴، عن انخفاض عام في معدلات الخصوبة في معظم الدول العربية، تفاوتت نسبتها بين ۳٫۸ في المئة و۲۴٫۳ في المئة.

وتم تحليل بيانات معدلات الخصوبة في الدول العربية على مدار ۱۰ سنوات، وتحديدا خلال الفترة الممتدة بين عامي ۲۰۱۱ و۲۰۲۱، استنادا إلى بيانات البنك الدولي.

وكانت الأردن من أكثر الدول تضررا، حيث سجلت انخفاضا بنسبة ۲۴٫۳ في المئة، تلتها العراق واليمن بنسب ۲۲٫۲ في المئة و۱۹٫۱ في المئة على التوالي، والضفتان الشرقية والغربية بنسبة ۱۸٫۶ في المئة، بينما سجلت سوريا انخفاضا بنسبة ۱۸٫۱ في المئة.

في المقابل، وبحسب الدراسة، كانت ليبيا وتونس الأقل تأثرا بمعدلات تراجع بلغت حوالي ۳٫۸ في المئة و۴٫۵ في المئة، فيما ظلت معدلات الخصوبة في الجزائر مستقرة خلال هذه الفترة. وتشجع ليبيا مواطنيها على الزواج والإنجاب بمنح مادية، خصوصا أن نسبة السكان قليلة مقارنة بالمساحة الجغرافية للدولة.

أما الإمارات، فسجلت أدنى معدلات خصوبة بين الدول العربية، حيث تراوحت بين ۱٫۷ و۱٫۵ طفلا للمرأة الواحدة.

وكشفت الدراسة أن رغبة الأسر في الحفاظ على مستوى معيشي مرتفع لعبت دورا رئيسيا في تقليص عدد المواليد، حيث أصبحت الأسر تُفضِّل الاستثمار في تعليم نوعي باهظ التكلفة لأبنائها، بدلا من إنجاب عدد كبير من الأطفال.

كما أشارت إلى أن التباين في معدلات الخصوبة داخل الدولة الواحدة يعود إلى الاختلاف في نمط الحياة بين المدن والمناطق الريفية، حيث ترتفع معدلات الخصوبة في المناطق الريفية والبوادي مقارنة بالمدن الكبرى.

ويرى استشاري النساء والولادة والعقم البروفيسور الدكتور حسن صالح جمال أن أبرز أسباب انخفاض الخصوبة وعدد المواليد في معظم الدول العربية يتلخص في عزوف الشباب والفتيات عن الزواج وتأخر سن الزواج ما يؤثر على خصوبة المرأة، إلى جانب صعوبة التربية وحاجاتها في هذا العصر وارتفاع معدل الطلاق وزيادة نسب تأخر الإنجاب والعقم لأسباب طبية مثل السمنة والتدخين والتلوث البيئي والمائي وزيادة الأمراض الجنسية، وزيادة الضغوط النفسية.

وقال الدكتور جمال “إن العالم يشهد بصفة عامة تحولات خطيرة في موضوع انخفاض الخصوبة، وهذا يعتبر تحولا سلبيا لأنه يؤثر على الأسرة والمجتمع والاقتصاد والتقنية، وخطورة ذلك هو انكماش سكاني وتغير هائل في الهرم السكاني ليصبح معظم السكان من كبار السن كما حدث في كثير من دول العالم مثل الصين واليابان وألمانيا“.

وأشار الدكتور جمال إلى أبرز الحلول لتحفيز الخصوبة والإنجاب وذلك عن طريق توفير رعاية أكبر ومزايا شخصية للنساء وإجازة أمومة أطول مدفوعة الأجر وساعات عمل أكثر مرونة للأمهات والآباء الجدد، وتوفير دور حضانة في معظم المؤسسات، والحفاظ على صحة السكان بصفة عامة وتوظيفهم لفترة أطول، وكفالة تغطية الحمل والولادة لدى القطاع الخاص، وتقديم الدعم المادي والحوافز المالية للأسر الكبيرة، والاهتمام بنمط الحياة الصحي ونمط الغذاء، والاهتمام بالمفهوم الاجتماعي للإنجاب والأسرة والصحة الإنجابية، والتشجيع على الزواج والحد من الطلاق.

ويشير مصطلح “معدل الخصوبة”؛ إلى متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة خلال حياتها الإنجابية (۱۵ – ۴۹ سنة)، ولا يشير إلى مدى قدرتها على الإنجاب.

كما أن انخفاض معدل الخصوبة ليس دائما أمرا سلبيا أو إيجابيا، بل يعتمد على السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لكل دولة.

ويشهد لبنان انخفاضاً ملحوظاً في معدلات الخصوبة، إذ تسير الولادات في منحى تنازلي منذ عام ۲۰۱۱٫

ويرى خبراء الديمغرافيا أن تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية خلال الأعوام الأربعة الماضية، بما في ذلك تداعيات النزوح السوري والانهيار الاقتصادي وجائحة كورونا، أدى إلى تأجيل الزواج وتقليص حجم الأسر، وهي تحديات متراكمة جعلت التأثيرات الديمغرافية أكثر وضوحاً ما يثير تساؤلات حول مستقبل التركيبة السكانية في البلد.

وقال منسق مختبر الديمغرافيا في مركز الأبحاث بمعهد العلوم الاجتماعية الدكتور شوقي عطية “إن مسألة الخصوبة تتعدى البعد البيولوجي المرتبط بالقدرة على الإنجاب لتشمل أيضا أبعادا ثقافية واقتصادية، في حين أن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في بعض البلدان تترافق بارتفاع الخصوبة، ويختلف الأمر في لبنان إذ يؤدي الوعي المتزايد إلى تأجيل الزواج أو تقليص عدد الأطفال المقرر إنجابهم“.

وأشار إلى أن “التراجع في الخصوبة يعود إلى عوامل عدة أبرزها الأزمة الاقتصادية والوضع الاجتماعي، وفي ظل غياب دور الدولة واستمرار حالة عدم الاستقرار فإن تأجيل الزواج والإنجاب أصبح أمرا شائعا،” مشيرا إلى أن معدلات الخصوبة في لبنان تتراوح ما بين ۱٫۶ و۱٫۷، وهي من بين أدنى المعدلات في العالم العربي، ما يعني أن عدد السكان قد يشهد تناقصا ملحوظاً في المستقبل إذا استمر الوضع على حاله.

وفي ما يتعلق بمعالجة تأثير التراجع في معدلات الخصوبة، كشف الباحث في قضايا التنمية المستدامة الدكتور فيصل العتيبي أن من بين الحلول المتعارف عليها تشجيع الأسرة على الإنجاب من خلال برامج تحفيزية وتحسين الرعاية الصحية اللازمة للأمهات والحوامل للحفاظ على فرص بقاء الحمل والولادة عالية قدر الإمكان مع توفير فرص عمل للشباب، وذلك لتشجيعهم على تكوين الأسرة بمعدلات زمنية أسرع، وبالتالي حدوث عملية تكوين الأسرة في فترة زمنية أقصر.

العرب