فلسطينية تطرّز في باريس حنين العودة إلى غزة

مها الداية، فنانة فلسطينية من غزة، توثق مآسي الحرب بالتطريز من باريس، حيث لجأت مع أسرتها بعد معاناة تحت القصف. من خلال فنها، تنسج ذاكرة الدمار والحنين، وتحوّل الألم إلى فعل مقاومة فني وإنساني.

في إحدى الزوايا الهادئة لمشغلها الباريسي، تلمع خيوط داكنة تحت ضوء خافت بينما تنهمك الفنانة الفلسطينية مها الداية في غرزة جديدة. تمسك إبرة وخيطًا، لكن عملها الحرفي لم يعد كما كان. “قبل الحرب، كنت أطرّز للمناسبات السعيدة،” تقول بهدوء، “أما اليوم، فأُطرّز الألم”.

الداية، البالغة من العمر ۴۱ عامًا، واحدة من مئات الفلسطينيين الذين فرّوا من قطاع غزة بحثًا عن ملاذ آمن. رفقة زوجها وأطفالها الثلاثة، تحاول في فرنسا أن تعيد بناء حياتها، وأن تُبقي فنها شاهدا على ما يحدث في وطنها المحاصر.

في أعمالها التي عُرضت مؤخرًا في معهد العالم العربي بباريس، تبدو مها وقد دمجت الحرفة الفلسطينية التقليدية بمضمون سياسي وإنساني ثقيل. على قطع قماشية داكنة، نسجت بخيوط سميكة رسائل مثل “أوقفوا الإبادة الجماعية”، ورسمت خريطة لقطاع غزة تضيء بالأحمر مناطق الدمار. حتى الألوان التي تستخدمها، لاسيما الرمادي والأسود، تعكس واقعا مليئا بالحزن والانكسار.

حين أهدت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قطعة مطرزة كتب عليها “وين بدنا نروح؟” لم تكن فقط تسلّمه عملاً فنياً، بل كانت تنقل صوت الفلسطينيين الذين يتكرر نزوحهم داخل قطاع محاصر ومشتعل. تقول: “هذه العبارة يردّدها الجميع في غزة… لأننا نُهجّر باستمرار”.

رحلة مها إلى باريس بدأت في غزة، في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر. تقول: “تركت شرفتي المزينة بالأزهار في مدينة غزة، وغادرت إلى خان يونس. ظننت أنني سأغيب لبضعة أيام فقط، لكن الغياب طال لأشهر”.

في ديسمبر، وقع قصف عنيف على المنزل الذي كانت تحتمي فيه، فأصيب اثنان من أبناء أخيها بجروح بالغة، أحدهما بترت ساقه. لم تجد الأسرة ملاذًا سوى خيمة، قضوا فيها أربعة أشهر في برد قارس ومطر غزير. “كنا نعيش في ظروف لا تليق بالبشر،” تقول مها بأسى.

في القاهرة، بعد رحلة خروج باهظة الثمن من غزة (بلغت أربعة آلاف دولار لكل فرد)، بدأت مها وزوجها (وهو فنان أيضاً) باستعادة ما تبقى من حياتهما. تقول: “في القاهرة شعرت كأنني طائر خرج من قفص. كانت عودتي إلى الرسم والتطريز بمثابة تنفّس بعد الاختناق”.

ساهمت مبادرة “معاً”، التي أُطلقت لدعم فناني غزة خلال الحرب، في إيصال ملف مها إلى معهد كولومبيا في باريس ومعهد العلوم السياسية، حيث حصلت على إقامة فنية ضمن برنامج “بوز”، وهو برنامج أسّسته الحكومة الفرنسية عام ۲۰۱۸ لدعم الباحثين والفنانين في حالات الطوارئ.

وصلت العائلة إلى باريس في مطلع عام ۲۰۲۵٫ التحقت مها ببرنامج الإقامة وبدأت تعلم الفرنسية صباحاً، بينما تطرّز بعد الظهر. وفي المساء، تجلس مع زوجها وأطفالها الثلاثة – يافا (۸ أعوام)، وريما (۱۵ عاماً)، وآدم (۱۸ عاماً) – حول مائدة واحدة في مسكن طلابي مؤقت. رغم الراحة النسبية، لا تشعر مها بسلام داخلي. تقول: “أحب باريس، لكن هناك شيء ينكسر بداخلي كل يوم. كيف أهنأ وأنا أعلم أن أهلي لا يزالون وسط الحرب؟”

عام ۲۰۲۳، قدمت مها معرضًا بعنوان “ليس مجرد ركام”، أرادت فيه أن تُعيد للأنقاض صوتًا. لم تنظر إلى المباني المهدّمة كأطلال فقط، بل كمواقع شهدت حياةً وعائلات وذكريات. قالت آنذاك: “البنايات التي أصبحت ركامًا كانت مأهولة… وبعضها رغم الصواريخ بقي واقفًا. إذا البنايات رفضت السقوط، فما بالك بالبشر”؟

وفي إحدى لوحاتها، أظهرت حبلاً للغسيل يتدلّى من شرفة متصدعة، في إشارة رمزية إلى وجود حياة كانت هنا. “حبل الغسيل يعني أن أحدًا كان يقطن هنا… أن هناك حياة لم تُمحَ بالكامل،” تقول.

لا ترى مها في التطريز مجرد تقليد فني، بل وسيلة للبقاء. “أنا لا أطرّز فقط لأوثّق ما حدث،” تقول، “بل لأحافظ على صوتنا حيًّا، لأقول إننا باقون رغم كل شيء.” تأمل مها الداية أن تعود يومًا إلى وطنها، رغم إدراكها أن العودة لا تعني بالضرورة الأمان. “الكل يحلم بالعودة، لكننا في النهاية نبحث عن حياة أفضل لأولادنا. الأمان هو ما نحتاج إليه.” تختم. وبين الغرز، تواصل مها كتابة تاريخ غزة، لا بالحبر أو الورق، بل بالخيط والقماش والذاكرة.

العرب